الأحد، 25 ديسمبر 2016

مقدّمة

رمضانيات
نحن نقصّ عليكم أحسن القصص

هذا الكتاب يحتوي على ثلاثين قصة من قصص القرآن الكريم عن الرسل والانبياء، أعدّت كل قصة لتصلح حلقة تلفزيونية كاملة.

في شهر رمضان المبارك تجلس عائلة مسلمة حول مائدة الافطار، وأثناء تناولهما طعام الافطار يسرد الوالدان قصة من قصص الانبياء والرسل، ويتناقشون خلال السرد مع الابن والابنة، حول مجريات الاحداث، ويجري تفسير لآيات قرآنية معيّنة لها علاقة بالقصة المروية.

العائلة مكوّنة من أب و أم وإبنة في ربيعها الثامن عشر وإبن لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر.

بعد الاصغاء لأذان المغرب، وكسر عطش الصيام بالماء أو العصير المثلج، وتناول التمر يبدأ الاب كلامه بالحمد والشكر لله، وتكمل الام بالدعاء لعائلتها بالخير. ثم يبدأ مع الطعام سرد قصة اليوم الرمضاني، ويتخلل ذلك نقاش علمي ديني بين الوالدين والابن والابنة.

هدف القصص:
1-  شرح الخلق من الزاوية الدينية منذ البداية مع آدم وحواء وسرد قصص الانبياء الرسل الى أن نصل الى سيرة خاتم الانبياء سيدّنا محمد صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
2- القاء الضوء على نفحات من التاريخ الذي عاصر هؤلاء الرسل
3- اضافة النظريات العلمية التي أتى بها العلماء من وراء تلك السيَر والأحداث التي رافقت حياة الرسل بما فيها النظريات البيئية والجغرافية والتقنية والنفسية والعلمية البحتة التي هدت العلماء فيما بعد لاكتشافات علمية ساعدت في تطوير حضارة الانسان

والله المستعان

المؤلف


سامي الشرقاوي

1 قصة بداية الخلق آدم عليه السلام


رمضانيات
حلقات يكتبها سامي الشرقاوي
اجتماع عائلي حول مائدة رمضان
عائلة مؤلفة من أب – أم – إبنة في الثامنة عشرة ربيعا – إبن في السادسة عشرة ربيعا
الجميع بانتظار آذان المغرب يرفع لوقت الصلاة والافطار
يتسامر الصائمون حول الطاولة فيبدأ كبير العائلة كلامه
الحلقة الاولى
بداية الخلق 
آدم عليه السلام



الأب: دعونا في هذا الشهر المبارك، نتناقش على مائدة الافطار، في أمور الدين والقرآن، ونذكر ما وصلنا من قصص قصّها علينا رب العالمين في كتابه المبين.

الإبنة: ليتكم تسردوا لنا قصص الانبياء بالتسلسل، فنحن لسنا على اطّلاع تام بجميع الانبياء والرسل الذين أتى على ذكرهم القرآن الكريم.

 الإبن: ماذا عن كيفية بدء الدنيا، وماذا كان هناك قبل ان يخلق الله هذا العالم، وقبل ان يخلق آدم وحواء، وقصة الخلق.. هل تعرفها يا أبي؟

الأب: حسنا لنبدأ اذن من بداية الخلق .. والذي أعرفه أنا مستمّد مما علّمنا الله في كتبه القدسية، وخاصة في القرآن الكريم، ومما جاء على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء على لسان الصحابة، ورجال العلم، وماا توارده الناس من أحاديث تاريخية ودينية، والله وحده يعلم ما هو الصحيح منها. لقد قال الله في كتابه العزيز : بسم الله الرحمن الرحيم – (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدّنا ذكرا).

الأم: يعني ان الله يقول لرسوله انه في هذا القرآن يحكي قصص من سبق من الخلق. وقد قال الامام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : كتاب الله فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم.
وقيل أن سيدنا عمر بن الخطاب قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم.

الإبنة:  وكيف بدأ الله الخلق؟

الأم: في خطبة للإمام علي وصف بها كيف خلق الله الكون فيها ملخّص جميل عمّا جاء قي القرآن الكريم في شأن بداية الخلق قال فيها:
أنشأ الخلق انشاء وابتدأه ابتداء بلا رويّة أجالها (أي بدون سابق خطّة وضعها لهذا الشأن)، ولا تجربة استفادها (أي لم يكن هناك تجربة سابقة بمعنى خلقا من قبل)، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها(بمعنى دون أيي عناء)، أحال الاشياء الى أوقاتها( حوّلها من العدم الى الوجود في الوقت المعيّن)، ولأم بين مختلفاتها(بمعنى خلطط الارواح بالاجساد) وغرّز غرائزها (أنشأ أطباعها وطبائعها)، الزمها أشباحها(جعل لكل مخلوق طبيعة مختلفة)، عالما بها قبل ابتدائها، محيطا بحدودها وانتهائها، عارفا بقرائنها وأحنائها(جوانبها).

الأب: ونتابع مع الامام علي: ثم أنشأ سبحانه فتق الاجواء وشقّ الارجاء وسكائك الهواء (بمعنى فتح الفضاء وبانت نواحيه وسلك فيه الهواء)
الأبن: هل هذا هو الانفجار الكوني؟
الأم: يجوز أن الامام علي كان يشير الى شيء من هذا القبيل فلقد قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم "أنا مدينة العلم وعلي بابها".

الآب: فأجرى فيها ماء متلاطما تياره، متراكما زخاره(تتعالى امواجه فيصبح شاهق العلو)، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها بردّه(امساك الماء كي لا يسقط)، وسلّطها على شدّه، وقرنها الى حدّه.

الأم: ثم يتابع الامام علي الوصف فيقول:  الهواء من تحتها فتيق(مثقوب) والماء من فوقها دفيق. ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها(جعلها عقيمة لا تصلح الا للهبوب وتحريك الماء)، وأدام مربّها(بمعنى لا تنقص قوتها)، وأعصف مجراها وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار(تحريك وتقليب الماء الفوّار)، واثارة موج البحار فمخضته مخض السقاء(خفقته حتى طلع الزبد منه)، وعصفت به عصفها بالفضاء. تردّ أوّله الى آخره وساجيه الى مائره( الساكن والمتحرك)، حتى عبّ عبابه ورمى بالزبد ركامه فرفعه في هواء منفتق(ما زال يحكي عن ثقب الفضاء)، وجو منفهق (كون واسع)، فسوّى منهنّ سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا(ممنوعا من الذوبان والسيلان)، وعلياهن سقفا محفوظا(يحفظها من التهاوي والوقوع)، وسمكا مرفوعا(طبقة سميكة معلّقة في الفضاء)، بغير عمد يدعمها(بدون دعائم) ولا دسار ينظمها(ولا مسامير تثبّتها)، ثم زينها بزينة الكواكب وضياء الثواقب(النجوم المنيرة)، وأجرى فيها سراجا مستطرا(الشمس) وقمرا منيرا، في فلك دائر(يدور أي غير ثابت) وسقف سائر(متحرك) ورقيم مائر(كون لا يكف عن الدوران وهو مرقوم بالكواكب)

الإبنة: الله أكبر هذا علم لم يكن اكتشف بعد على أيام الامام علي!

الأب: صحيح ولكن لا ننسى انه مستمّد من آيات القرآن الكريم، وإن كانت بصيرة الامام علي سبقت علماء عصرنا الى فهم تلك الآيات واستيعاب العلوم التي أشارت اليها.  يقول الله في كتابه الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم "خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش. يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير".

الأم:  سبحان الله، لقد شرح الله في هذه الآية وحدها كيفية بدء الخلق. الله أكبر على هذه البلاغة.

الإبنة:  وكيف تفسّر الآية يا والدي كي نفهمها نحن؟

الأب: حاضر. ولكنّي أريد ان أذكر في هذا المجال أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم.. " يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والارض؟ قال كان فوقه هواء وتحته هواء ثم خلق عرشه على الماء". ثم أن العلماء اجتهدوا بعد ذلك فقالوا: ثم خلق القلم فكتب به المقادير، ثم الكرسي الذي وسع السموات والارض، ثم خلق النور والظلمة، ثم الماء فوضع عرشه على الماء. والله أعلم.

الإبن: وهل هذا يعني أنه لم يكن هناك شيئا أبدا قبل أن بدأ الله الخلق... فقط هواء؟

الأم: لقد حدّد لنا القرآن الكريم كيفية بدء الخلق في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم- (قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا او كرها قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها وزينّا السماء الدنيا بمصابيح، وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم.) صدق الله العظيم .

الاب: ومنهم من قال أن الله بدء خلقه يوم السبت وأكمل الخلق في ستة أيام، ثم استوى على العرش. ومنهم من قال أن الايام الستة قد سمّاها الله: أبجد هوز حطّي كلمن سعفص قرشت. والله أعلم

الإبن: ما معنى رواسي من فوقها؟

الأب: يعني الجبال التي تغطّي الكرة الارضية.

الإبنة: وما معنى قدّر فيها أقواتها:

الأم: يعني والله أعلم ان الله قد خلق في الارض الزرع والحيوان وقسّم ذلك بقدر معيّن وفق مساحات الارض وحسب المناخ والتضاريس. وياتي بعد ذلك "سواء للسائلين" ويجوز انها تعني أن المنتفع من هذا كله الانسان على السواء بغض النظر أين وجد هذا الانسان.

الإبن: وكيف كانت السماء دخان؟

الأب: يجب ملاحظة أن الله خلق الارض قبل السماء، ومن الارض صعد بخار المياه الى السماء التي لم يكن فيها أية منشئات كونية. لذلك فقد حدد الله بعد ذلك هذه المنشئات الكونية فقال "فقضاهن سبع سموات" ثم قال " وأوحى في كل سماء أمرها" بمعنى أنه جعلها في حالة او تركيبة معينة ومختلفة عن السماء التي تليها.

الأم: لذلك يقول تعالى "وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا، ذلك تقدير العزيز العليم". والسماء الدنيا هي أقرب سماء الى الارض والتي يوجد فيها المجرّة الشمسية وفيها ما نعرفه من شمس وقمر وكواكب أخرى نستطيع مشاهدتها بالعين المجردة من موقعنا في الارض. ويعلمنا الله بأن هذه النجوم والكواكب لها أيضا وظائف أخرى غير انارة السماء ومنها وظيفة حفظ الكرة الارضية وضمان حركتها كما قدّرها الله في هذه المجرّة الكونية.

الإبن: وكيف خلق الارض ومن ماذا... وهل يعني الكون أو فقط الكرة الارضية؟

الأب: يقول الله تعالى في كتابه الكريم (وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون. وعلامات وبالنجم يهتدون. أفمن خلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون. وإن تعدّوا نعمة اللهه لا تحصوها إن الله لغفور رحيم).- صدق الله العظيم. فمن هذه الآيات الكريمة يمكننا أن نستدل أن الارض التيي يتحدّث عنها في القرآن الكريم هي الكرة الارضية التي يعيش الانسان عليها، والتي هي من ضمن النظام الكوني.

الابنة: ولكنه أيضا يذكر الكون لأنه يتكلم عن السماوات السبع والمجرّات.

الأم: بالطبع فآيات الله عن الكون كثيرة في القرآن الكريم، غير أنه خص الحديث عن الارض وطبيعتها بشكل لافت، ربما لأن القرآن نزل في الاساس على أهل الارض. روي عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم انه قال " فجّرت أربعة أنهار من الجنة الفرات والنيل وسيحان وجيحان أما النيل فهو أشهرهم و أطولهم، ويمر على عدة بلدان من مصر الى معظم أفريقيا، فيسقي الارض الجدباء، فينبت فيها الزرع، ويجوز أن الله قصده في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم - أولم يروا انّا نسوق الماء الى الارض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون - . صدق الله العظيم.

الابنة: سبحان الله، وكيف بعد هذا يكفر الانسان بنعمة ربه ويتجبر؟

الاب: بالطبع لا يجوز، والله يعلم أن الانسان سيكون جاحدا وجبارا، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: (أانتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والارض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها متاعا لكم ولانعامكم). صدق الله العظيم. أي أن خلق الانسان مع ما هنالك من عظمة ودقة وروح لا يساوي أمام عظمة خلق السماء والارض.

الابن: في هذه الآية نلاحظ أنه يتكلم عن السماء بمعنى الكون فأخرج من سمك السماء الليل والنهار ثم بعد ذلك خلق الارض وأخرج منها الماء والمرعى.

الأب: أظن انك فهمت الآية بشكل خاطيء جزئيا. فنحن نعلم من الآية التي استهلينا بها النقاش ان الارض خلقت ثم استوى الله الى السماء فسواهن سبع سماوات. هنا يقول انه دحى الارض بعد أن نظّم في السماء الليل والنهار، فجعل الليل ظلاما والنهار ضوءا. ودحاها يعني جعلها دائرية على شكل بيضة. وبعد ذلك أخرج منها ماءها وزرعها وقد علمنا أنه تعالى قدّر ذلك قبل ان يظهرهما على وجه الارض. ونستدل من هذه الآية أنّ كروية الارض تجعلها محورا للنهار والليل. لذلك فهي عند دورانها حول نفسها وحول الشمس تجعل الليل والنهار يتواليان بانتظام على كل بقاع الارض وبالتالي يصبح لدينا حساب الوقت والزمن.

الابن:  الله أكبر. أرجوك أن تكمل يا والدي.

الاب:  ثم جاء دور الشمس والقمر والليل والنهار في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم- (والشمس تجري لمستقرلها. - لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون – والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين)- صدق الله العظيم. هذه الآية توضح أيضا حقيقة علمية وهي أن الشمس مستقّرة ولا تدور مثل الارض والقمر وبقية الكواكب، فهي وجدت مستقرا أي ثابتة في مكانها لها لا تتحرك، وأما باقي الكواكب فهي تدور في فلكها. وهذا حديث شامل عن الكون ومجرّتنا الشمسية.

الام: وقال تعالى أيضا: بسم الله الرحمن الرحيم: - (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل لتعلمواعدد السنين) صدق الله العظيم تماما كما شرح والدكما من قبل.

الابنة:  أي أنه بذلك صار هناك حساب التاريخ

الام:  بالظبط- ثم خلق الله البرق والرعد والسحاب والمطر وصرّف الرياح، فيكون قد خلق كل شي بعد أن قدّره تقديرا.

الاب: صحيح. ومن هنا يتحدى الله البشر أن ينظروا ويتفكّروا في كل ما خلق - بسم الله الرحمن الرحيم: (فأرجع البصر هل ترى من فطور) أي هل ترى من شائبة أو خطأ أو عدم نظام، (ثم أرجع البصر كرّتين، ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير). صدق الله العظيم

الاب:  ومن هم الملائكة وكيف خلقهم الله؟

الام: الملائكة خلقهم والله أعلم بعد أن خلق العرش، وجنّد منهم من يحمل العرش، ومنهم من يحمي السماء ومنهم من يكون على الارض، فوضع لكل ملاك وظيفة معينة.. وهو وحده يعلم عددهم، وهم كما وصفهم الله رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع..

الاب: ومنهم من أوكل في ابلاغ النبوة الى الانبياء، ومنهم من أرسل في مهمات عسكرية، ومنهم الحفظة الكاتبين، الذين يكتبون أعمال كل البشر، ومنهم حراس الجنة، ومنهم زبانية النار.. وكلّهم يسبح بالله ويجيئون مع الله صفا صفا يوم القيامة لا يتكلمون الا من أذن له الله بالكلام، فإذا تكلموا لا يتكلمون الا الصواب  ولا يشهدون الا بالحق.
الأم: ولقد وصفهم الامام علي بن أبي طالب فقال : ثم فتق ما بين السماوات فملأهنّ أطوارا من ملائكته منهم سجود لا يركعون وركوع لا ينتصبون (لا يقفون) وصافّون لا يتزايلون (مصطفّون لا يحيدون عن الصف) ومسبّحون لاا يسأمون. لا يغشاهم نوم العين ولا سهو العقول (لا ينسون) ولا فترة الابدان (لا تضعف أجسامهم) ولا غفلة النسيان (لا يخرفون). ومنهم أمناء على وحيه وألسنة الى رسله (ينطقون وحي الله بأمانة ليبلّغوا الرسل) ومختلفون بقضائه وأمره (لكل منهم وظيفته وعمله) ومنهم الحفظة لعباده (يسجلّون اعمال البشر) والسدنة لابواب جنانه (حراس أبواب الجنة). ومنهم الثابتة في الارضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم. والخارجة من الاقطار أركانهم والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم (وهذه أوصاف تدل على عظم أجسامهم وقوتهم فأرجلهم ثابتة في الارض ورؤوسهم عالية عن السماء واطرافهم خارجة عن أقطار الساوات والارض ويحملون العرش على أكتافهم). ناكسة دونه أبصارهم متلفّعون تحته بأجنحتهم مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة، وأستار القدرة، لا يتوّهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ولا يحدّونه بالاماكن ولا يشيرون اليه بالنظائر.

الإبن: يا له من وصف دقيق وجميل – ماذا يعني فتق ما بين السماوات؟

الأم: أمّا فتق ما بين السماوات والارض يعني قسّم السماوات الى أقسام. وجعل في كل قسم انواعا مختلفة من الملائكة.

الابنة: وهل هناك ملائكة مفضّلين عند الله؟

الام: يقال والله أعلم ان سيّدنا جبريل هو من الملائكة المفضّلين عند الله، بدليل انه أرسل الى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه رسالة ربه. وهو المعني في قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم: علّمه شديد القوى. صدق الله العظيم. أي جبريل.

الابن: وكيف يكون شديد القوى ؟

الاب: يقال أنه هو الذي رفع المدائن على قوم لوط، وكنّ سبع مدن يربون على ال 400الف نسمة ما عدا الدواب والاشجار وكل البنيان، رفعهم كلهم وانطلق بهم الى السماء حتى سمعت الملائكة صياح ديكهم ونباح كلابهم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها.

الام: وهو الذي رفع جبل الطور على بني اسرائيل عندما غضب عليهم سيدنا موسى بعد أن كفروا من بعد أن أنقذهم من فرعون وجنوده. وهو لا شك له منزلة عالية عند الله سبحانه وتعالى.

الاب: أما اسرافيل فهو أحد حملة العرش وهو الذي ينفخ في الصور ثلاث نفخات يوم القيامة.

الام: ويروى أنه نزل مرة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جبريل معه، فقال له : يا محمد ان الله يأمرك أن تختار بين أن تكون نبي عبد أو ملك نبي، فأشار اليه جبريل أن تواضع في اختيارك، فقال النبي: بل نبي عبد. فسأل الرسول جبريل عن هذا الملك، فقال أنه اسرافيل خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافا قدميه كالجندي، لا يرفع نظره، بين يديه لوح، فإذا أذن الله في شيء من السماء أو الارض ارتفع ذلك اللوح، فينظر فيه، فإن كان من عملي أمرني به، وإن كان من عمل ميكائيل أمره به، وإن كان من عمل ملك الموت أمره به.

الاب: ومن الملائكة المذكورين في القرآن ايضا، هاروت وماروت، أما منكر ونكير فورد ذكرهما في الاحاديث وهما موكلين بسؤال الناس في قبورهم. وقد ورد ايضا في القرآن ان خازن الجنة ملاكا يدعى رضوان، وخازنن النار ملاكا يدعى مالك.

الام: وكما خلق الله آدم من طين، خلق الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وكان ابليس من الجان، وهو موكل بأمر الدنيا، ويقال أن قبائل من الجن عاثوا في الارض فسادا وسفكوا الدماء، فأمر الله ابليس ان يتوجه اليهم بجنده وعززه بجند من الملائكة، فقتلوهم وأجلوا من بقي منهم عن الارض الى جزائر البحور. فتعززت مكانته وساس ما بين الارض والسماء.

الاب: ولكن عندما خلق الله آدم، تمرّد هذا اللعين على مشيئة ربه، كأنه حصل لديه نوع من الغيرة من خلق آدم، وكأنه كان قد عرف مكانة آدم وذريته عند ربه، فأمر ان يمتثل لأمر الله وأن يسجد لآدم، وقال لربه، انا أحسن منه خلقتني من نار وخلقته من طين. فغضب عليه الله وطرده من الجنة، وأحلّ اللعنة عليه.

الام: ولكن هذا اللعين لم يستسلم، وطلب من الله ان يسّلطه على آدم وذريته، ليبرهن ان آدم وذريته، لا يصلحون لهذا المقام الذي شرّفهم به الله. وأخذ عهدا على نفسه أمام الله، انه سيعمل كل ما بوسعه بأن يغوي بني آدم ما دامت ارواحهم في أجسادهم.

الاب: ولكن الله أخذ عهدا بالمقابل على نفسه، أنه لا يزال يغفر لبني آدم طالما استغفروه. ودليل ذلك قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم – (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) صدق الله العظيم
.
الام: وهنا يحضرني ما روي ان ابليس اللعين طلب من الله ان يسلّطه على آدم وذريته، فسلّطه. قال لا يكفي، أريد ان آتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم ومن يمينهم ومن شمالهم ومن فوقهم ومن تحتهم، فمكنّه. قال لا يكفي، اريد ان أجري فيهم مجرى الدم في العروق، فمكّنه.. فقال آدم عندئذ، وما تركت لي يا رب.. قال قد تركت لك رحمتي وغفراني فاذكر دائما بأنني غفور رحيم. والله أعلم

الابن:  الله أكبر

الاب: ويروى أن رجلا جاء الى رسول الله فقال يا رسول الله اذا أذنبنا، قال يحاسبكم الله بذنبكم.. قال واذا تبنا قال يتوب الله عليكم ويغفر لكم .. قال ثم اذا اذنبنا قال يحاسبكم الله بذنبكم .. قال واذا عدنا وتبنا قال يتوب الله عليكم ويغفر لكم.. وجعل الرجل يردد السؤال والرسول صلّى الله عليه وسلّم يردد الجواب الى أن قال: فوالله لن يملّ حتى تمّلوا.

الابنة: ما أوسع رحمتك يا رب.  وكيف خلق الله آدم وحواء وماذا جرى بعد خلقهما، وكيف طردا من الجنة ؟

الأم: لنستكمل كلام الامام علي في نفس الخطبة ونسمعه كيف يصف خلق آدم:
ثم جمع سبحانه من حزن الارض وسهلها (الارض الوعرة والصالحة)، وعذبها وسبخها(حلوها ومرّها) تربة سنها بالماء( صبّ عليها الماء)، حتى خلصت (جبلت) ولاطها بالبلة حتى لزبت (خلطها حتى رقّت ولانت)، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول(أجسام منحنية وموصولة)، وأعضاء وفصول(أقسام جسم الانسان مفصّلة واضحة)، أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت(جعلها صلبة ملساء متينة وتركها حتى يبست كالفخار)، لوقت معدود وأمد معلوم (تركها فترة محدودة من الزمن)، ثم نفخ فيه من روحه، فمثلت انسانا ذا اذهان يجليها(عقول يصقلها)، وفكر يتصرف بها، وجوارح يستخدمها(أعضاء)، وادوات يقلبها(أطراف) ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل (الحكمة)، والاذواق والمشّام والالوان الجناس(الحواس)، معجونا بطينة الالوان المختلفة (الطبائع)، والاشباه المؤتلفة(المتجانسة)، والاضداد المتباعده والاخلاط المتباينة(العناصر الكونية) من  الحر والبرد والبلّة والجمود، واستأدى الله وديعته لديهم وعهد وصيته اليهم في الاذعان له بالسجود والخشوع لتكرمته فقال سبحانه - اسجدوا لآدم- فسجدوا الا ابليس....

الإبنة: ما هذا انه يتكلّم عن جميع العلوم المكتشفة حديثا!

الأب: لقد كان الامام علي دائما يقول لأصحابه أعلم من الله ما لم تعلمون وما لا استطيع قوله وبيانه. ألم يقل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، أنا مدينة العلم وعلي بابه.
لنتابعه وهو يصف اخراج آدم من الجنة:
ثم اسكن سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشه وآمن فيها محلّته وحذّره ابليس وعداوته فاغترّه عدوّه نفاسة عليه بدار المقام ومرافقة الابرار فباع اليقين بشكّه والعزيمة بوهنه واستبدل بالجذل وجلا وبالاغترار ندما.
ثم بسط الله سبحانه له في توبته ولقّاه كلمة رحمته ووعده المردّ الى جنته. وأهبطه دار البلية وتناسل الذرية

الأم: من هنا نستطيع أن نستنتج أن الهبوط على الارض لزم تناسلا بين البشر حتى تتكاثر ذرية آدم. ولكن لنرى كيف استنبط الامام علي كل هذه الامور من القرآن الكريم.

الاب: عندما قرر الله ان يخلق آدم، جمع الملائكة وابلغهم هذا القرار. ثم يقال والله أعلم انه قبض قبضة من جميع الارض، ثم سوّى آدم على هيئته، ثم نفخ فيه من روحه، فكان أول ما جرى الروح في عينيه وخياشيمه، فعطس.. فقال الله "يرحمك ربك" .. وكانت الرحمة على آدم أول الكلام من الله الى آدم. فنظر آدم بعينيه فرأى ثمار الجنة،، وأراد ان ينهض ولم تكن الروح قد سرت بعد في كل جسده فلم يقدر فقال الله تعالى (خلق الانسان من عجل) صدق الله العظيم.

الام: ثم جاءت الملائكة وسجدت له الا ابليس، ففسق عن أمر ربه، فغضب عليه الله وطرده. وعّلم آدم اسماء كل شيء، وكانت الملائكة تجهل ما اخذه آدم عن ربه من علم
.
الاب: ولكن آدم كان دائما وحيدا، يمشي وليس له رفيق من جنسه وطينته.. فأحس بالملل يوما، وغلب عليه النعاس، لامر أراده الله، فنام نوما ثقيلا. فأخذ الله من ضلوعه ضلعا، وسوّى منه هيئة امرأة.

الام: فلما استيقظ وجدها قاعدة الى جانبه، فقال من هذا، قالت انا امراة خلقني الله من ضلعك، قال ولماذا خلقك، قالت لتأنس ألي.

الاب: وقال الله هذه زوجك يا آدم، فاسكن معها في الجنة، وكلا من حيث شئتما، ولكن لا تقربا هذه الشجرة. ونبههما أن الشيطان هو عدو له وعدو لهما، وأنه سيسعى ليغويهما ويضلهما، وقال يا آدم احذره، فهو يريد أن يخرجكما من الجنة، ليشقيك، لانك في الجنة هنا لا تجوع ولا تعرى، فالطعام والشراب والكسوة مؤمنين لكما.

الابنة: وما هي هذه الشجرة؟

الاب: الله أعلم، منهم من يقول تفاح ومنهم من يقول تين ومنهم من يقول حنطة..

الام: ومنهم من يقول انّ هذه الشجرة تحمل نبتا يحفّز الغريزة الجنسية، بحيث انّه ما أن أكلا منها حتى بانت عورتهما. ولكن الله أعلم بما تكون تلك الشجرة.

الاب: المهم ان الشيطان استطاع ان يغويهما، وأوهمهما أن الله لا يريد لهما أن يقربا هذه الشجرة، لانها شجرة الخلد اذا أكلا منها يصبحان ملكين. فأكلت حواء، وأكل آدم.- فانكشفت عورة الاثنين، وغلب عليهما الخجل، وصارا يداريان عريهما بورق الشجر. فقال له الله، أمنّي تفر يا آدم. قال آدم لا أفر ولكني خجل منك. قال ألم انهكما عن هذه الشجرة، (قال آدم ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين).

الام: فغلبت رحمة الله على غضبه، وتاب على آدم وقبل منه كلماته أي الدعاء الذي علمه اياه هو. وقرّر اعطائه هو وذريته فرصة ثانية للنجاة بأنفسهم، والتغلب على الشيطان، الذي ما يزال يجري عليهم لينهيهم عن طاعة الله. بسم الله الرحمن الرحيم – (اهبطو منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا همم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون). صدق الله العظيم.

الاب: وهكذا صدر قرار الطرد من الجنة. وروي عن الرسول والله ورسوله أعلم، ان آدم وحواء هبطا الى الارض، وليس عليهما لباس يستر عورتهما، غير ورق من ورق الجنة، فأصاب آدم الحر، حتى قعد وبكى، وقال لامرأته قد أذاني الحر، فجاء جبريل بقطن وأمرها ان تغزل وعلّمها كيف تخيط الملابس، وأمر آدم بالحياكة وعلمه النسج. وكان آدم قد اعتزل حواء معاقبا نفسه من الخطيئة. فجاء جبريل وأمره أن يأنس اليها وينجب منها ذريته.

الام: ويقال والله أعلم ان أول طعام اكله آدم وحوّاء على الارض الحنطة، واول لباس كان كسوة من شعر الضأن جزّاه ثم غزلاه ونسجا منه ثيابا.

الاب: وأنجب آدم من حواء توائم كل توأم من ولد وبنت، وكان يزوّج ذكر كل حمل بأنثى الآخر، وكان قابيل وهابيل أول ذكرين، وكان هابيل يريد أن يتزوج من أخت قابيل، فمانع قابيل ذلك لانه كان يريد أن يستأثر بها لنفسه، فأمر آدم قابيل وهابيل أن يقدّما قربانا، فقرّب هابيل شاة وقرّب قابيل حزمة من زرع رديء زرعه، فنزلت نار أكلت قربان قابيل وتركت قربان هابيل فغضب قابيل وقتل أخاه ليسجل اول جريمة قتل في التاريخ.

الام: فبعث الله غرابا حفر في الارض، فشاهده قابيل وعلم أن الله أراد أن يريه كيف يواري أخاه في التراب، فدفنه وأصبح من النادمين.

الاب: ثم قرر أن يهرب من وجه أبيه، فتوجه الى أرض بعيدة، وسكن في الجبال، وتزوج وأنجب. ويقال والله أعلم، أنه تعلّم كيف يضرب على الصنج، وصار يلهو مع أهله. ثم تعلّم ولده توبلقين، صناعة النحاس والحديد. والله أعلم.

الام: ويقال أيضا، والله أعلم، أن آدم حزن حزنا شديدا على هابيل، وغضب غضبا شديدا على قابيل لقتله أخيه. وكان له غلاما آخر أسماه شيت، وأنجب شيت ذكرا أسماه أنوش، وأنجب أنوش غلاما أسماه قينان، الذي أنجبب مهلاييل، وأنجب مهلاييل غلاما أسماه أخنوخ وهو ادريس عليه السلام، الذي أنجب متوشلح، وأنجب متوشلح غلاما أسماه لامك، وهو والد سيدنا نوح عليه السلام.

الاب: قال أبو هريرة "وخلق آدم في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة " وعن ابى موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك".

الام: قيل والله أعلم أن الله عز وجل بعث جبريل الى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث الله ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلطه، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، وغلب عليهم حقيقة الولادة والموت، والله أعلم.

الاب: فصعد عزرائيل بالتراب فأمر اللهُ أن يُجبل التراب بالماء، حتى عاد طيناً لازباً.  واللازب: هو الذي يلزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ). فخلقه الله بيده لئلا يتكبّر إبليس عنه، فخلقه بشراً، فكان جسداً لفترة، فمرّت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدّهم منه فزعاً إبليس، فكان يمر به فيضربه، فيصوّت الجسد كما يصوّت الفخار يكون له صلصلة، فذلك حين يقول: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)

الام: وكان إبليس يقول: لقد خلقك الله يا آدم لأمر ما أجهله. ثم دخل من فمه وخرج من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإنه أجوف، لئن سُـلطت عليه لأهلكنّه. بيد أن الله قال لهم (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ). فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال الله تعالى للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت الملائكة قل: الحمد لله

الاب: فقال آدم الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه يريد الوصول بسرعة إلى ثمار الجنة، وذلك حين يقول الله تعالى: (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)

الام: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) يقال انه لما أمرت الملائكة بالسجود كان أول من سجد منهم إسرافيل، فآتاه الله فكتب القرآن في جبهته. ثم قال الله: يا آدم اذهب إلى هؤلاء النفر فقل لهم فانظر ماذا يقولون؟ فجاء فسلّم عليهم فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فقال: يا آدم هذا تحيتك وتحية ذريتك.

الاب: قال آدم يا رب وما ذريتي؟ فبسط الله كفّه فرأى آدم ذرّيته في كف الرحمن، فإذا منهم لهم أفواها من نور، وفيهم رجل يسترعي انتباه آدم لعظيم نوره، قال يا رب من هذا؟ قال ابنك داود قال: يا رب فكم جعلت له من العمر؟ قال جعلت له ستين قال: يا رب فأتم له من عمري حتى يكون له من العمر مائة سنة، ففعل الله ذلك، وأشهد على ذلك. والله أعلم

الام: فلما نفذ عمر آدم بعث الله ملك الموت، فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعين سنة؟ قال له الملك: أولم تعطها ابنك داود؟ فجحد ذلك، فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته". وقيل خلق الله آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنة من صفحته اليمنى، وأخرج أهل النار من صفحته اليسرى، فألقوا على وجه الأرض؛ منهم الأعمى والأصم والمبتلى. فقال آدم: يا رب ألا سويت بين ولدي؟ قال: يا آدم إني أردت أن أُشكر. والله أعلم

الابنة: وهل يعني هذا ان الانسان مقدّر عليه مصيره ان كان الجنة أو النار؟

الاب: بالطبع لا، ولكن هذا يعني ان الله يعرف مسبقا من هم أهل الجنة ومن هم أهل النار.

الابن: ولماذا لا يصلح الله أهل النار كي يدخلوا الجنة.

الاب: لقد خلق الله الانسان بعدة حواس منها القلب، وجعل فوقهم العقل كي يستعمله الانسان ليعرف طريق الخير من طريق الشر.وأراد الله للإنسان أن يختار كما خيّر والديه آدم وحوّاء من قبل. ولكنّه جعل رحمته تغلب كل شيء. فالانسان يخطيء كما أخطأ آدم وحوّاء والله يعاقب ويرحم كما عاقب آدم وحوّاء وكانت رحمته أشد من عقابه.

الابنة: وهل تشرحان لنا قصة قابيل وهابيل؟

الام: يقال والله أعلم أنه كان يولد لآدم وحواء في كل بطن ذكر وأنثى، وكان آدم يزوّج كل ابن أخت أخيه التي ولدت معه، والآخر بالأخرى وهلم جرا، ولم يكن تحل أخت لأخيها الذي ولدت معه.

الاب: وأراد هابيل أن يتزوج بأخت قابيل، وكان أكبر من هابيل، وأخت قابيل أحسن، فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه، وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقرّبا قرباناً، وذهب آدم ليحج إلى مكة، واستحفظ السماوات والارض والجبال على بنيه فأبين، وقبل قابيل أن يتولى رعاية اخوته بحفظ ذلك.

الام: فلما ذهب قرّبا قربانهما؛ فقرّب هابيل جذعة سمينة، وكان صاحب غنم، وقرّب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه، فنزلت نار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي،
فقال: (إنما يتقبّل الله من المتقين). وقيل: إنه إنما قتله بصخرة رماها على رأسه وهو نائم فشدخته. وقيل: بل خنقه خنقاً شديداً وعضه كما تفعل السباع فمات. والله أعلم.

الاب: وقوله له لما توعده بالقتل: (لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) دل على خلق حسن، وخوف من الله تعالى وخشية منه، وتورّع أن يقابل أخاه بالسوء الذي أراد منه أخوه مثله.

الام: وقوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) أي إني أريد أن تحمل وزر قتلي وتتحمّل ذنب ذلك لتصبح من أهل النار.

الاب: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ). يحكى أنه لما قتله ندم وحمله على ظهره مدة لا يعرف ماذا يفعل به، ولم يزل كذلك حتى بعث الله غرابين، فتقاتلا فقتل أحدهما الآخر، فلما قتله عمد إلى الأرض يحفر له فيها ثم ألقاه ودفنه وواراه، فلما رآه يصنع ذلك (قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) ؟ ففعل مثل ما فعل الغراب فواراه ودفنه.

الام: يقال والله أعلم، أن قابيل عوجل بالعقوبة يوم قتل أخاه؛ فعلقت ساقه إلى فخذه، وجعل وجهه إلى الشمس كيفما دارت، تنكيلاً به وتعجيلاً لذنبه وبغيه وحسده لأخيه. وراح يهيم على وجهه في الارض هربا من أبيه وأنجب ذرية كانت كلّها على مثاله جنّدها الشيطان لتأتمر بأوامره وتعيث فسادا في الارض.

الاب: وقد رزق الله آدم بعد وفاة ابنه هابيل بإبن سماه شيث ومعنى شيث: هبة الله، وسمياه بذلك لأنهما رزقاه بعد أن قتل هابيل. ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى ابنه شيث وعلّمه ساعات الليل والنهار، وعلّمه عبادات تلك الساعات، وأعلمه بوقوع الطوفان بعد ذلك. ويقال أن أنساب بني آدم اليوم كلها تنتهي إلى شيث، وسائر أولاد آدم انقرضوا وبادوا. والله أعلم.

الام: ولما توفي آدم عليه السلام جاءته الملائكة بحنوط، وكفن من عند الله عز وجل من الجنة، وعزّوا فيه ابنه ووصيه شيثاً عليه السلام. فقبضوه وغسّلوه وكفّنوه وحنّطوه، وحفروا له وصلّوا عليه ثم أدخلوه قبره فوضعوه في قبره، ثم غمروه بالتراب، ثم قالوا: يا بني آدم هذه سنّتكم.

الاب: وقيل أنه دفن عند الجبل الذي هبط عليه في الهند، وقيل بجبل أبي قبيس بمكة وقيل غير ذلك والله أعلم. وقد ماتت بعده حواء بسنة واحدة. ويقال أن عمره اكتتب في اللوح المحفوظ ألف سنة. قيل أنّه لما مات آدم بكت الخلائق عليه سبع أيام. وكان قد عهد الى ابنه شيت، ووصّاه وعلّمه ساعات الليل والنهار، وأعلمه بوقوع الطوفان، والله أعلم.
وسنكمل غدا ان شاء الله ماذا حصل بعد موت آدم

سامي الشرقاوي

2 قصة ادريس عليه السلام

رمضانيات
حلقات يكتبها سامي الشرقاوي
الحلقة الثانية
ادريس عليه السلام

اجتماع عائلي حول مائدة رمضان
الجميع بانتظار آذان المغرب يرفع لوقت الصلاة والافطار
يتسامر الصائمون حول الطاولة فيبدأ كبير العائلة كلامه

الأب: انتهينا بالأمس أن ٍسيدنا ووالدنا آدم توفاه الله وأوصى ابنه شيث من بعده ليقوم بزمام الامور ويواصل عمل بناء هذه الحياة التي أرادها الله أن تكون على كوكب الارض. واليوم سنأتي على ذكر سيدنا إدريس الذي هو ثالث الانبياء بعد سيدنا آدم وسيدنا شيث، وهو سادس حكّام الارض لأنه إدريس بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن آدم.

الأم: ويقال أن كل أهل تلك الأزمنة البدائية كانوا صالحين لا يشوبهم ضلالات ولا كفر، حتى ورد ببعض الأخبار أن الملائكة كانت تظهر عيانا أمام أهل تلك الأزمنة وتسلّم عليهم ... وبالتالي فإن مجتمعهم كان مليئاً بالصالحين، وكان أشهر الصالحين في ذلك الزمان خمس هم : ود – سواع – يغوث – يعوق – نسر.

الإبنة: ولكن هؤلاء أسماء أصنام أتى ذكرهم في القرآن الكريم!

الأب: أجل، ولكن لنصبر قليلا لإيضاح الامر.

الإبنة: آسفة يا أبي لتسرّعي هذا.

الأب: أبدا هذا دليل على سعة اطّلاعك. على كل حال في زمن ادريس عليه السلام، مات هؤلاء الصالحون، فحزن الناس عليهم حزنا شديدا ... وفكّروا ببناء التماثيل لتجسيد صورهم و تخليد ذكراهم ....فنهاهم إدريس عن ذلك خشية أن يعبدوهم بعد نحت التماثيل لهم. ولكنهم أبوا واستمرّوا في نحت التماثل ثم عبدوها بعد أن أغواهم الشيطان. وتلك التماثيل التي جاء ذكرها في القرآن الكريم (وقالوا لا تذرُنَّ ءالهتُكم ولا تذرُنَّ وَدًّا ولا سُواعًا ولا يغوثَ ويَعوقَ ونسرًا).

الأم: وكان بنو شيت من قوم إدريس أيضا ولكنهم الصفوة المختارة، وكانوا مميزين عن غيرهم لأنهم آمنوا بما كان يدعو اليه ادريس عليه السلام، وكان عددهم ما يقارب الالف تقريبا. والله أعلم.

الأب: اذن صار هناك فئتان من الناس، الفئة المؤمنة من ابناء شيت والفئة التي أشركت بالله وابتعدت عن سيدنا ادريس.

الإبن: وماذا فعل سيدنا ادريس؟

الأب: انهمك سيدنا ادريس عليه السلام بوعظ الناس وارشادهم بما هداه اليه الله وأوحى له به. وراح يؤسس للشرائع ويعلّم القوم الايمان ويحببه اليهم. ولكن ذلك لم يكن العمل الوحيد لادريس عليه السلام. فقد آتاه الله من العلم ما استطاع به ان يؤسس اولويات العلوم بما فيها العلوم الطبية والبيئية والاجتماعية.

الإبنة: وكيف كان ذلك؟

الأم: يقال أنه عليه السلام أول من أكتشف الخياطة و تعلم كيف يخيط وعلّم قومه. وأول من تعلّم الكتابة وبماذا يكتب وعلّم قومه. وأول من أكتشف علم الحساب والفلك والنجوم وأول من صنع الادوات والآلات وأول من أستخدم الدواب والخيول للهجرة بها والله أعلم.

الأب: وكل هذا يسمّى أولّيات إدريس ....... فكانت سنّته تفعلها الاجيال بعده ولا تستغنى عنها أبدا كالخياطة مثلا و الكتابة ... فبدون الخياطة لما اكتسى الناس ولبسوا الثياب، ومن غير الكتابة لما كانت الحضارات القديمة سجّلت أحداثها.

الأم: لم يكن القلم معروفا قبله، فتعلمه منه قومه وتبعه في ذلك سائر الشعوب وتوارثوا عنه المعرفة. وكان كل زمن يأتي تتعلم أجياله ما علّمهم. وكان يلقّب بأبي المعرفة أو هرمس الهرامسة. وقد ولد إدريس في العراق ثم رحل الى مصر ليبدأ من هناك سيرة حياته كنبي ورسول ورجل علم.

الأب: لذلك نرى أن الحضارة السومرية والحضارة المصرية وهما حضارتين عاش فيهما سيدنا ادريس عليه السلام، كانوا أول من خطّوا بالقلم وأول من دوّنوا الاحداث على الصحف و الجدران و المعابد.

الإبنة: سبحان الله، أنا لم أكن أعرف أن ادريس هو أبو الحضارتين العراقية والمصرية.

الإبن: ولم أكن أعلم أنه أبو المعرفة.

الأم: لولا إدريس عليه السلام لما كنا نجد آثار العراق محفورة بكتابات مسمارية أو نحتية حفرية، ولا آثار مصر وهي المكان الثاني لإدريس، مكتوبة بخطوط القلم المعروف بألوانه وأشكال كتاباته المتعددة على الجدران المصرية كما نراها اليوم. كما نلاحظ أن النقوش قد أُستخـدِم فيها الكتابة بالألوان السائلة الـشبه الحبرية، كما أن في مصر أيضا آثارا بها نقوش نحتية بالحجارة كما بالعراق .

الأب: ولأن إدريسا كان أول من نظر في علم النجوم والحساب، أخذ قومه عنه في العراق هذه العلوم الحسابية والفلكية، ثم انتقل لمصر بعد ذلك فتعلّم المصريون من إدريس هذا العلم وبرعوا فيه.

الأم: ولأن إدريسا لمّا أنبأه الله بحلول الطوفان في زمن سيأتي بعده، خاف على علومه وتعاليمه الفريدة. ففكّر في ماذا يصنع ليحمي صناعاته وكتاباته من الغرق والضياع في الطوفان؟ وبدأ ببناء إنشاءات عديدة من المباني الأهراميّة والمعابد والأماكن التي يمكن أن تكون بمنأى عن الاضرار التي ستنجم عن هذا الطوفان. وراح يخزّن في تلك الانشاءات جميع أعماله العلمية ليحميها من التلف. وخط بيده على جدرانها علومه و حكمه و اقواله لكي لا تندثر وتضيع، كما كتب علومه و أقواله على الورق والجلود.

الإبنة: وهل يعني هذا أن ادريس هو أول من بنى الاهرامات؟

الأب: هكذا يقال ويروى والله أعلم.

الأم: لقد كان ادريس صدّيقا نبيّا، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة فكان لا يفتر عن قرائتها لا ليلا ولا نهارا، وكانت الملائكة تأتي لمصافحة ادريس وكان يرفع له كل يوم من العبادة بقدر ما يرفع لغيره من كل الناس حتى تعجبت منه الملائكة و حسده إبليس اللعين و لم ير له عليه سبيلا، اذ كان عليه السلام عنده شدة و صلابة في امره و نهيه.

الإبنة: وهل كانت هذه الصحف فيها العلوم التي حفظها سيدنا ادريس وعلّمها الى الاجيال؟

الأب: ربما .... لأننا كما علمنا الى الآن انه اول من خط بالقلم واول من كتب الصحف و اول من نظر في علم النجوم و الحساب. وهو اول من خاط الثياب ولبس المخيط. كما أنه كان كثير الدعاء والتسبيح ويقال انه اذا خاط يسبح الله عند كل غرزة من الابرة فاذا غفل وخاط يفتق ما خاطه بغير تسبيح. لذلك والله أعلم كان في تلك الصحف جميع هذه العلوم اضافة الى الشرائع السماوية.

الأم: كان سيدنا ادريس لا ياكل الا من كسب يده و كان يخيط للناس بالاجرة وكان اول من صنع المكيال وقيل قبل زمن ادريس كان الناس يلبسون الاردية بغير خياطة فلما صنع ادريس الخياطة و خاط استحسن الناس ذلك و لبسوا المخيط.

الإبن: وما قصة رفعه الى السماء؟

الإبنة: (واذكر في الكتاب ادريس انه كان صدّيقا نبيا – ورفعناه مكانا عليّا)

الأب: يقال والله أعلم أن السبب في رفع إدريس عليه السلام مكانا عليّا، أنّ الملائكة أحبّته حبّا لا يوصف بسبب كثرة تعبّده، ولأنه كان تلميذا لهم يعلّمونه العلوم التي علّمها الله لهم، وكان تلميذا نجيبا مطيعا يتلقّى عنهم العلوم، وكانوا يأنسون به ويستمتعون بقضاء الوقت والجلوس معه. ويقال أن ملك الموت اشتاق اليه يوما فتخفّى على هيئة رجل عجوز ضعيف وطرق بابه وقت الافطار وكان إدريس صائما في ذلك اليوم.  فدعاه إدريس ليأكل معه فأبى، وكرّر ذلك ثلاث ليال متواصلة حتى انكره إدريس وقال له في الليلة الثالثة: اني اريد ان اعلم من انت؟ فقال الملك: انا ملك الموت استأذنت ربّي ان ازورك واصاحبك فأذن لي في ذلك.

الأم: فطلب منه إدريس أن يذقه الموت حتى يهون عليه عندما يحين وقته، فأماته لبرهة ثم أحياه. وقال له أدخلني النار حتى أهابها أكثر، فأدخله فترة في النار وأخرجه منها. ثم سأله أن يدخله الجنة برهة لتزيد رغبته فيها، فأدخله فيها ولمّا أراد أن يخرجه منها بعد فترة، تمنّع إدريس وقال له لا أخرج منها أبدا.

الأب: فاحتار ملك الموت في أمره ولم يدر ما يفعل، حتى جاءه إشارة من الرحمن أن إدريس فعل ما فعل بأمر من الله، وأن الله شاء أن يبقيه في الجنة ليتنعّم فيها ما شاء من الوقت.

الإبن: سبحان الله العلي العظيم.

الأم: ويقال أيضا والله أعلم ان الله قد أوحى الى ادريس أني أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني آدم، فأحب ادريس أن يزداد عملاً، فأتاه أحد الملائكة يوما وسأله إن كان يريد أي شيء يلبّيه له. فسأله إدريس أن يأخذه برحلة الى السماء، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة شاهد الملاك ملك الموت فسأله من معك؟ فقال: إدريس هو ذا بين جوانحي. فقال ملك الموت: يا للعجب! بُعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟! فقبض روحه هناك. فذلك قول الله عز وجل (وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً). والله أعلم.

الأب: لا بدّ لي أن أزيد في شأن إدريس والآية الكريمة (ورفعناه مكانا عليا) قناعتي الشخصية، أن هذا المكان العلي الذي رفع الله ادريس اليه، ما هو الا اشارة الى أرفع الدرجات العلمية. والتي تميّز ادريس بهذا المكان عن باقي البشر، لأنه كان استاذهم ومؤسس علومهم. لذلك فإن الله رفعه الى أعلى وأرفع مكان في العلم والمعرفة، بسبب امتلاكه للعلوم والمعرفة وتعليمها وحفظها ونشرها الى كل البشر من بعده والله أعلم.

الأم: (واذكر في الكتاب ادريس انه كان صديقا نبيا. ورفعناه مكانا عليا)- صدق الله العظيم. فسيدنا ادريس اذن هو اول من أثنى عليه الله بعد آدم، ووصفه بالنبوة والصدّيقية. وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه لما عرج الى السماء، رآه في السماء الرابعة.

الأب: بعد رحيل سيدنا آدم وولده سيدنا شيث عليهما السلام اختار الله سبحانه وتعالى إدريس عليه السلام ليكون نبياً من بين جميع ولد آدم وليكون سادس من يحكم الأرض وكان يتّصف بالحكمة فقد أدرك ثلاثمائة وثماني سنين من حياة جده الخامس سيدنا آدم عليه السلام من مجموع الألف عام التي عاشها سيدنا آدم عليه السلام.

الأم: عرف عن سيدنا إدريس الحكمة والفكر وجمال الوجه وخضوب اللحية وعرض المنكبين وتمام القامة وضخامة العظام وقلة اللحم وبراقة العينين وكثرة الصمت والتأني في الكلام وسكون الأعضاء وكانت بوجهه عبسة حزن وإذا مشى في الأرض كسر نظره. والله أعلم

الأب: وعندما تولى سيدنا إدريس الحكم والنبوة ظل على شريعة سيدنا آدم وولده شيث وأضاف عليها ما أملاه الله عليه ليشرّعه. فلما رأى إعتداء قبيلة قابيل على المؤمنين وانتشار الفساد، كان أوّل من قاتل في سبيل الله وأوّل من غنم. كما كان أول من أعدّ جيشاً بالخيول والمشاة حارب به وجاهد وانتصر به على فلول الفساد ومن هنا بدأ الصراع بين الخير والشر.

الأم: قرّر سيدنا ادريس عليه السلام ان يرحل الى مصر. فأمر من معه أن يرحلوا معه عن وطنهم العراق فثقل على هؤلاء الرحيل وقالوا له: وأين نجد مثل بابل إذا رحلنا؟ وبابل بالسريانية تعني النهر، كأنهم عنوا بذلك دجلة والفرات، فقال لهم: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره أي نهرا غيره فلما خرج سيدنا إدريس عليه السلام ومن معه من العراق ساروا إلى أن رأوا النيل وفيه واديًا خاليًا فوقف سيدنا إدريس على النيل فنزل فيه وأخذ يتفكر في عظيم قدرة الله سبحانه ويسبح الله سبحانه وتعالى.

الأب: وأشار القران الكريم الى ادريس مرّتين مرّة وصفه بالنبي الصدّيق وانّه رفعه مكانا عليا ومرّة انّه كان من الصابرين مثل اسماعيل وذي الكفل وقد ادخلهم الله جميعا في رحمته. وقد جمع الله لإدريس الصحف التي نزلت على ابائه آدم وشيث وزاده ثلاثين صحيفة كما قال تعالى: (ان هذا لفي الصحف الاولى) في اشارة الى صحف آدم وشيث وادريس.

الأم: بعد أن كفر بعض القوم في عهد إدريس، وعبدوا أصناما نحتوها، تطوّر الكفر الى الفساد، وانغمس الكفّار في اللهو والفسق والمجون، وصاروا يمارسون السحر ويعلّمونه للناس ويرتكبون بواسطته كثيرا من الشرور. فكانت مهمة ادريس صعبة وشاقة في محاربة كل تلك الشرور. لهذا يشير الله الى انه كان صابرا على كل هذه الملمّات وتلك المهام. (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ).

الأب: كما كان عليه السلام عالما فطنا عاقلا لا يضيع وقته عبثا وقد آتاه الله معرفة النجوم والحساب. فكان يعرف اسماء النجوم ويعرف حركة الكواكب ودلائلها على تقلب الاحوال الجوية وهو ما يعرف اليوم بعلم الفلك.

الأم: وألهمه الله معرفة الطب فبرع فيه وكان يصف للمرضى الدواء الذي يقضي على امراضهم واوجاعهم. ويقال ان سر الطب والكيمياء يرجع الى ملك فرعوني يدعى هرمس، هو الذي نشر هذا العلم وأخذ عنه العلماء الاغريق، ويقال ان هذا الملك قد أخذ السر عن سيدنا ادريس الذي يرجع اليه الفضل في علم الطب والكيمياء. لذلك كان المصريون يطلقون عليه لقب هرمس الهرامسة. ويقال ان اسم ادريس جاءه من كثرة دراسته للعلم  والله اعلم.

الإبنة: اذن فإن سر المصريين في علم الكيمياء والطب يعود الى سيدنا ادريس عليه السلام؟

الإبن: كما أنه يعود اليه عليه السلام سر بناء الاهرام.

الأب: وكان عليه السلام أول من امتطى الفرس جهادا في سبيل الله وهو أول من أسر وسبى في الحروب. وهو أول من نزل عليه جبريل من الانبياء وأنزل له ثلاثين صحيفة بالاضافة الى صحف آدم وشيث.

الأم: كان نهر النيل يفيض ليملأ الاودية لانه لم يكن له مجرى محدّد وكان الناس يهربون من الفيضان الى اعالي الجبال والتلال حتى ينقص فينزلون ويزرعون في الاماكن التي لا تزال نديّة رطبة، فاهتمّ نبي الله بهذا الامر واراد ان يهيّأ للناس حياة مستقرّة غير مهددة بكوارث الفيضانات فصعد الى اول مكان يجري منه نهر النيل وقاس الارض وهذّب مجرى النهر على اصول هندسية سليمة.

الإبن:  فهو اذن اول مهندّس.

الأب: أجل فكان اول من تكلّم بعلوم البيئة والهندسة، ونشر تهذيب مجرى النيل في بلاد الحبشة والنوبة وغيرها واستعان بالله ووظّف الناس من جميع البلاد كي يضع حسابا مظبوطا لمجرى النيل وظبط سرعته وبطئه وفيضانه في مسيره بين الاودية حتى يصل الى مصر على نحو ما هو عليه الآن.

الإبنة: أول عالم بيئي!؟

الأم: وكانت له مواعظ وآداب فقد دعا إلى دين الله، وإلى عبادة الخالق جلّ وعلا، وتخليص النفوس من العذاب في الآخرة، بالعمل الصالح في الدنيا وحضّ على الزهد في هذه الدنيا الفانية الزائلة، وأمرهم بالصلاة والصيام والزكاة وغلظ عليهم في الطهارة من الجنابة، وحرّم المسكر من المشروبات وشدّد فيه أعظم تشديد.

الأب: وقيل إنه كان في زمانه 72 لغة يتكلّم الناس بها وقد علّمه الله تعالى منطقهم جميعاً ليعلّم كل فرقة منهم بلسانهم. وهو أول من علّم السياسة المدنية، ورسم لقومه قواعد تمدين المدن، فبنت كل فرقة من الأمم مدناً في أرضها وأنشأت في زمانه 188 مدينة.

الإبنة: يا الله، اهناك علما لم يخض فيه هذا النبي الجليل؟

الأم: سبحان الله، لقد أنزل الله عليه معظم العلوم الاساسية التي يحتاجها الانسان، للمضي ببناء مجتمعه وحضارته، فكان مجمع العلوم أو كما يقول عنه المصريون هرمس الهرامسة. وضع نواة العلوم والتقنيات، وبدأ باستعمال الالبسة والادوات، وخاض في علوم الارض والسماء، وكان دائما صابرا شاكرا حامدا.

الأب: ويقال انه فوق كل ذلك اشتهر بالحكمة فمن حكمه قوله "خير الدنيا حسرة، وشرّها ندم" وقوله "السعيد من نظر إلى نفسه وشفاعته عند ربه أعماله الصالحة" وقوله "الصبر مع الإيمان يورث الظفر".

الأم: لعبت الروايات والاساطير دورا في ذكر حياة سيدنا ادريس عليه السلام. فقيل انه كان في بدء نبوة إدريس عليه السلام، ملك جبار ركب ذات يوم في نزهه فمرّ بأرض كثيفة الخضرة كانت لعبد مؤمن فأعجبته، فسأل وزراءه : لمن هذه الارض ؟ قالوا : لعبد من عبيد الملك، فدعاه فقال له : أعطني أرضك هذه ، فقال له : عيالي أحوج إليها منك، قال : فبعها لي أكرمك في ثمنها ، قال : لا أمتّعك ولا أساومك فدع عنك ذكرها ، فغضب الملك عند ذلك وأسف وانصرف إلى أهله وهو مغموم مفكر.

الإبنة: في بداية نبوّته يعني انه كان ما زال في أرض العراق. أليس كذلك؟

الأم: أعود لأذكّر أن هذه فقط اسطورة تروى عنه عليه السلام، لا ندري مدى صدقها وتاريخها ومكانها.

الأب: كانت لهذا الملك زوجة كان معجبا بها ويشاورها في شؤون مملكته، فلما استقرّ في مجلسه بعث إليها ليشاورها في أمر صاحب الارض فخرجت إليه فرأت في وجهه الغضب ، فقالت له : أيها الملك ما الذي دهاك حتى بدا الغضب في وجهك. فأخبرها بخبر الارض وما كان من قوله لصاحبها ومن قول صاحبها له.

الأم: فقالت : أيها الملك إنما يغتّم ويأسف من لا يقدر على التغيير والانتقام وإن كنت تكره أن تقتله بغير حجة فأنا أكفيك أمره واصيّر أرضه بيدك بحجة لك فيها العذر عند أهل مملكتك. قال : وماهي ؟ قالت : أبعث إليه رجالا من قومي يأتوك به فيشهدوا عليه عندك إنه قد خرج من دينك فيجوز لك قتله وأخذ أرضه.

الأب: قال : فافعلي ذلك، فبعثت إلى قوم منهم فأتوها فأمرتهم أن يشهدوا على فلان عند الملك أنه قد تبرّأ من دين الملك فشهدوا عليه أنه قد تبرّأ من دين الملك فقتله واستخلص أرضه.  فغضب الله للمؤمن عند ذلك فأوحى إلى إدريس عليه السلام أن إئت عبدي هذا الجبار فقل له عني : أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت أرضه خالصة لك فأحوجت عياله من بعده وأجعتهم ؟ أما وعزّتي لانتقمنّ له منك في الآجل ، ولاسلبنكّ ملكك في العاجل ، ولاخرّبنّ مدنك ، ولاذلّن عزّك ، ولاطعمنّ الكلاب لحم امرأتك ، فقد غرّك يا مبتلى حلمي عنك .

الأم: فأتاه إدريس عليه السلام برسالة ربه وهو في مجلسه وحوله أصحابه . فقال : أيها الجبار إني رسول الله إليكم وهو يقول لك : أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت أرضه خالصة لك ، وأحوجت عياله من بعده وأجعتهم ؟ أما وعزتي لانتقمن له منك في الآجل ، ولاسلبنك ملكك في العاجل ، ولاخربن مدينتك ، ولاذلن عزك ، ولاطعمن الكلاب لحم امرأتك.

الأب: فقال الملك : اخرج عني يا إدريس فلن تعجزني بتهديدك، ثم أرسل إلى امرأته فأخبرها بما جاء به إدريس فقالت : لا يشغل بالك رسالة إله إدريس، أنا ارسل إليه من يقتله فتبطل رسالة إلهه وكل ما جاءك به ، قال : فافعلي، وكان لإدريس أصحاب مؤمنون يجتمعون إليه في مجلس له فيأنسون به ويأنس بهم ، فأخبرهم إدريس بما كان من وحي الله عزوجل إليه ورسالته إلى الجبار وما كان من تبليغ رسالة الله إلى الجبار ، فأشفقوا على إدريس وأصحابه وخافوا عليه القتل.

الأم: وبعثت امرأة الجبار إلى إدريس أربعين رجلا ليقتلوه فأتوه في مجلسه الذي كان يجتمع إليه فيه أصحابه فلم يجدوه، فانصرفوا وقد رآهم أصحاب إدريس فحسّوا أنهم أتوا إدريس ليقتلوه فتفرّقوا في طلبه فلقوه فقالوا له : خذ حذرك يا إدريس فإن الملك قاتلك ، قد بعث اليوم أربعين رجلا ليقتلوك فاخرج من هذه القرية. فخرج إدريس من القرية ومعه نفر من أصحابه، ثم ناجى إدريس ربه فقال : يا رب بعثتني إلى جبار فبلّغت رسالتك ، وقد توعّدني هذا الجبار بالقتل، بل هو قاتلي إن ظفر بي. فأوحى الله إليه : وعزّتي لأنفّذن فيه أمري، ولاصدقّن قولك فيه وما أرسلتك به إليه .

الأب: فقال إدريس : يا رب إن لي حاجة ، قال الله : سلها تعطها ، قال : أسألك أن لا تمطر السماء على أهل هذه القرية وما حولها وما حوت عليه حتى أسألك ذلك ، قال الله عزوجل : يا إدريس إذن تخرب القرية ويشتد جهد أهلها ويجوعون، فقال إدريس : أدري، قال الله : فإني قد أعطيتك ما سألت ولن امطر السماء عليهم حتى تسألني ذلك وأنا أحق من وفى بعهده، فأخبر إدريس أصحابه بما سأل الله عزوجل من حبس المطر عنهم وبما أوحى الله إليه ووعده أن لا يمطر السماء عليهم حتى يسأله ذلك.

الأم: فخرجوا من القرية وتفرّقوا في القرى، وشاع خبر إدريس في القرى بما سأل الله تعالى، وتنحّى إدريس إلى كهف في الجبل شاهق فلجأ إليه ووكّل الله عزوجل به ملكا يأتيه بطعامه عند كل مساء وكان يصوم النهار فيأتيه الملك بطعامه عند كل مساء، ووفّى الله عزوجل بعهده بأن قتل الملك وأخرب مدينته وأطعم الكلاب لحم امرأته غضبا للمؤمن.

الأب: وظهر في المدينة ملك آخر عاص فمكثوا بذلك بعد خروج إدريس من القرية مدة طويلة لم تمطر السماء قطرة من مائها عليهم ، فجهد القوم واشتدت حالهم وصاروا يمتارون الاطعمة من القرى من بعد. فلما جهدوا مشى بعضهم إلى بعض فقالوا : إن الذي نزل بنا مما ترون بسؤال إدريس ربه أن لا يمطر السماء علينا حتى يسأله هو، وقد خفي إدريس عنا ولا علم لنا بموضعه والله أرحم بنا منه، فأجمع أمرهم على أن يتوبوا إلى الله ويدعوه ويفزعوا إليه ويسألوه أن يمطر السماء عليهم وعلى ما حوت قريتهم.

الأم: فقاموا على الرماد ولبسوا المسوح، وحثّوا على رؤوسهم التراب ورجعوا إلى الله عزّ وجلّ بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرع إليه، وأوحى الله عزوجل إليه : يا إدريس أهل قريتك قد لجئوا إلي بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرع، وأنا الله الرحمن الرحيم أقبل التوبة وأعفو عن السيئة وقد رحمتهم، ولم يمنعني إجابتهم إلى ما سألوني من المطر إلا مناظرتك فيما سألتني أن لا امطر السماء عليهم حتى تسألني ، فاسألني يا إدريس حتى اغيثهم وامطر السماء عليهم .

الأب: قال إدريس : اللهم إني لا أسألك ذلك ، قال الله عزوجل : يا إدريس إسألني ، قال إدريس : اللهم إني لا أسألك، فأوحى الله عزوجل إلى الملك الذي أمره أن يأتي إدريس بطعامه كل مساء أن احبس عن إدريس طعامه ولا تأته به. فلما امسى إدريس في ليلة ذلك اليوم فلم يؤت بطعامه حزن وجاع فصبر. فلما كان في اليوم الثاني فلم يؤت بطعامه اشتد حزنه وجوعه، فلما كانت الليلة من اليوم الثالث فلم يؤت بطعامه اشتد جهده وجوعه وحزنه وقلّ صبره فنادى ربه : يارب حبست عني رزقي من قبل أن تقبض روحي ؟ !

الأم: فأوحى الله عز وجل إليه : يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيام ولياليها ، ولم تجزع ولم تنكر جوع أهل قريتك وجهدهم زمنا طويلا ؟ ! ثم سألتك عن جهدهم ورحمتي إياهم أن تسألني أن امطر السماء عليهم فلم تسألني وبخلت عليهم بمسألتك إياي فأذقتك الجوع فقلّ عند ذلك صبرك وظهر جزعك، فاهبط من موضعك فاطلب المعاش لنفسك، فهبط إدريس من موضعه يطلب أكلة من جوع.

الأب: فلما دخل القرية نظر إلى دخان في بعض منازلها فأقبل نحوه فهجم على عجوز كبيرة وهي ترقّق قرصتين لها على مقلاة فقال لها : أيتها المرأه أطعميني فإني مجهود من الجوع ، فقالت له : يا عبدالله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحدا - وحلفت أنها ما تملك شيئا غيره فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، قال لها: أطعميني ما امسك به روحي وتحملني به رجليّ، قالت : إنهما قرصتان : واحدة لي والاخرى لابني فإن أطعمتك قوتي مت، وإن أطعمتك قوت ابني مات.

الأم: فقال لها : إن ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فيحيا بها ويجزيني النصف الآخر فأحيا به. فأكلت المرأة قرصها وكسرت القرص الآخر بين إدريس وبين ابنها. فلما رأى ابنها إدريس يأكل من قرصه اضطرب حتى مات، قالت امه : يا عبدالله قتلت عليّ ابني جزعا على قوته؟! قال إدريس: فأنا احييه بإذن الله تعالى فلا تجزعي، ثم أخذ إدريس بكتف الصبي ثم قال : أيتها الروح الخارجة من بدن هذا الغلام بإذن الله ارجعي إلى بدنه بإذن الله وأنا إدريس النبي، فرجعت روح الغلام إليه بإذن الله فلما سمعت المرأة كلام إدريس وقوله : أنا إدريس ونظرت إلى ابنها قد عاش بعد الموت قالت : أشهد أنك إدريس النبي، وخرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية: ابشروا بالفرج فقد دخل إدريس قريتكم.

الأب: ومضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الملك الاول وهي على تل فاجتمع إليه أناس من أهل قريته فقالوا له: يا إدريس أما رحمتنا طوال هذه المدة التي جهدنا فيها مسّنا الجوع والجهد فيها؟ فادع الله لنا أن يمطر السماء علينا، قال: لا حتى يأتيني جبّاركم هذا وجميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك، فبلغ الجبّار قوله فبعث إليه أربعين رجلا يأتوه بإدريس، فأتوه فقالوا له: إن الجبّار بعث إليك لتذهب إليه فدعا عليهم فماتوا.

الأم: فبلغ الجبار ذلك فبعث إليه خمسمائة رجل ليأتوه به فقالوا له: يا إدريس إن الجبار بعثنا إليك لنذهب بك إليه، فقال لهم إدريس: انظروا إلى مصرع أصحابكم، فقالوا له: يا إدريس قتلتنا بالجوع ثم تريد أن تدعو علينا بالموت! أمالك رحمة؟ فقال: ما أنا بذاهب إليه، ولا أنا بسائل الله أن يمطر السماء عليكم حتى يأتيني جباركم ماشيا حافيا وأهل قريتكم معه.

الإبنة: ولماذا هذا العناد كلّه؟

الأب: فانطلقوا إلى الجبار فأخبروه بقول إدريس وسألوه أن يمضي معهم وجميع أهل قريتهم إلى إدريس حفاة مشاة، فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين له طالبين إليه أن يسأل الله لهم أن يمطر السماء عليهم ، فقال لهم إدريس: أما الآن فنعم ، فسأل الله تعالى إدريس عند ذلك أن يمطر السماء عليهم وعلى قريتهم ونواحيها فأظلتهم سحابة من السماء وأرعدت وأبرقت وهطلت عليهم من ساعتهم حتى ظنوا أنهم غرقى.

الإبن: ولماذا عاند عليه السلام ربه هكذا؟

الأم: الله أعلم، ولكن عندما نأتي على ذكر سيدنا موسى سنروي قصة له شبيهة بهذه. وأظن ان الافادة من هذه القصة أو الاسطورة تكون على النحو التالي: أولا اثبات ان دعوة ادريس مستجابة عند الله مهما كانت، وهذا لثقة الله بعبده ادريس. وثانيا لاثبات أن الرحمة هي صفة لله وليس للانسان ولو كان نبيا، فالانسان بطبعه جبار ظالم ولو على نفسه. وأخيرا والله اعلم ان ادريس كان ينوي أن يعلّم الكفار درسا لا ينسوه، وقد جاراه الله العليم بخطّته ونفذّها له كلها، غير ان الله ولأنه الرحمن الرحيم، قطع على ادريس فقط المدّة الزمنية رحمة بالناس والعباد.

الأب: وروي أيضا أن إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال: إني مشيت في الشمس يوما فتأذيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه ثقلها و احمل عنه حرها، فاستجاب الله له فأحس الملك الذي يحملها بذلك فسأل الله فأخبره بما كان من دعاء إدريس و استجابته فسأله تعالى أن يجمع بينه وبين إدريس و يجعل بينهما خلة فأذن له. ومن هنا بدأت صحبة إدريس مع الملائكة والله أعلم.

الأم: ذكرنا أنه يسمى عليه السلام في مصر هرمس الهرامسة، وقالوا: هو باليونانية إرميس وعرّب بهرمس، و معنى إرميس عطارد، وقال آخرون: اسمه باليونانية طرميس، وهو عند العبرانيين خنوخ وعرّب أخنوخ، و سمّاه الله عز وجل في كتابه العربي المبين إدريس.

الأب: وأقام إدريس ومن معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وطاعة الله عز وجل، و تكلّم الناس في أيامه باثنين و سبعين لسانا، وعلمه الله منطقهم ليعلّم كل فرقة منهم بلسانها، و رسم لهم تخطيط المدن. وجمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرّفهم بالسياسية المدنية، وقرّر لهم قواعدها فبنت كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها، و كانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة وثماني وثمانين مدينة أصغرها الرها وعلمهم العلوم المختلفة.

الأم: وعرفنا أنّه أول من استخرج الحكمة وعلم النجوم فإن الله عز وجل أفهمه سر الفلك وتركيبته ونقط اجتماع الكواكب فيه وأفهمه عدد السنين والحساب ولولا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك. و أقام للأمم سننا في كل إقليم تليق كل سنة بأهلها.

الأب: وقسّم الأرض أربعة أرباع وجعل على كل ربع ملكا يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، و تقدّم إلى كل ملك بأن يلزم أهل كل ربع بشريعة منهم آمون الملك الفرعوني الذي حكم مصر وأغناها بالعلم والمعرفة. والله أعلم

الأم: و يبقى ذكر سيدنا إدريس حيّا بين الفلاسفة وأهل العلم جيلا بعد جيل. فتعظيمهم له واحترامهم لساحته وإنهاءهم أصول العلم إليه يكشف أنّه أقدم أئمة العلم الذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكّر الاستدلالي والإمعان في البحث عن المعارف الإلهية أو هو أولهم (عليهم السلام).

ولنا لقاء انشاء الله في الغد مع سيدنا نوح وقصة الطوفان

سامي الشرقاوي