الأحد، 25 ديسمبر 2016

10 قصة يوسف عليه السلام

رمضانيات
حلقات يكتبها سامي الشرقاوي
الحلقة العاشرة
يوسف عليه السلام

اجتماع عائلي حول مائدة رمضان
الجميع بانتظار آذان المغرب يرفع لوقت الصلاة والافطار
يتسامر الصائمون حول الطاولة فيبدأ كبير العائلة كلامه

قصة النبي يوسف عليه السلام

الإبن: لقد شوّقتنا يا ابي لسماع المزيد من قصص الانبياء، فهي قصص جميلة وكلها عبر، وترمز الى اصول الحضارات والاديان...

الأب: أجل يا بني، فما بالك ان يصفها الله انها احسن القصص. قال الله في كتابه الكريم- بسم الله الرحمن الرحيم (الر، تلك آيات الكتاب المبين، انا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن وان كنت من قبله من الغافلين). - صدق الله العظيم. وفي نفس السورة يسرد لنا الله قصة سيدنا يوسف، حتى قال الناس والله اعلم ان هذه القصة هي التي عناها الله بأحسن القصص.

الأم: أنتم تذكرون طبعا ان امرأة يعقوب راحيل طلبت من الله ان يهبها غلاما من يعقوب، فاستجاب الله لها وحملت وانجبت يوسف عليه السلام وكان آية في الحسن والجمال. أحبّه أبوه وفضله على كل اخوته. حتى أنّ اخوته غاروا منه واضمروا له شرا.

الأب: فجاء يوسف ذات يوم الى والده وقال له يا ابت لقد رأيت في المنام انّ احد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. فنصحه يعقوب ان لا يقصص رؤياه تلك على احد من اخوته فيكيدوا له لان الشيطان للانسان عدو مبين. وأعلمه ان الله سيجتبيه ويعلمه تأويل الاحاديث وسيتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمّها من قبل على ابراهيم واسحق.

الإبنة: وهل كان سيدنا يعقوب على علم بما يضمر أولاده ليوسف؟

الأب: الله وحده اعلم بذلك. الا ان سيدنا يعقوب كان نبيا يوحى اليه كما كان ايضا انسانا ذكيا فطنا يقيس الامور قياسا دقيقا ويدرك الخطر القادم ويشعر به. وتقديري ان سيدنا يعقوب استشعر بايمانه ان رؤيا سيدنا يوسف هي رسالة من الله، وادرك بعقله ان حسد ابنائه من يوسف وكراهيتهم له يجوز ان تدفعهم الى القيام بعمل ما لاذية اخيهم او حتى قتله. لذلك اراد من يوسف ان يخفي رؤياه على اخوته.

الأم: وعندما اضمر اخوة يوسف الشر له وقرروا الخلاص منه، سألوا ابيهم ان يدعه يذهب معهم ليلعب وعاهدوه انهم سيحافظون عليه ويمنعون عنه اي شر. فأجابهم على امتعاض بعد ان اخذ منهم المواثيق ان لا يعرّضوه للخطر. واللافت انه حدد لهم هذا الخطر حين قال لهم انه يخاف أن ينشغلوا عنه فيأكله الذئب.

الابن: ولكن لماذا وافق سيدنا يعقوب على ذلك وهو يعلم ان سيدنا يوسف سيكون معهم في خطر اكيد؟

الام:  ربما يا بني ان سيدنا يعقوب ادرك كنبي او شعر كانسان له احساس مرهف ان الذي يحصل هو مشيئة رب العالمين وقرر ان لا يقف في وجه مجريات الاحداث. انما الجواب على سؤالك لا يعلمه الا رب العالمين.

الأب: كاد اخوة يوسف له وتآمروا على قتله والخلاص منه. الا ان احد الاخوة اقنعهم ان لا يقوموا بهذه الجريمة ونصحهم ان لا يقتلوه بل يرموه في البئر، وهكذا يموت في البئر او ربما يأتي اليه بعض الناس ويأخذوه. ولما رموه في البئر، ذهبوا الى والدهم يتباكون، وقالوا انهم كانوا يتسابقون فتركوا يوسف عند طعامهم فجاء الذئب واكله، وكانوا يحملون قميصه وعليه دما ادّعوا انه دم يوسف. قال يعقوب بل سوّلت لكم انفسكم امرا فصبر جميل.

الإبن: ما أجمل هذا التعبير: صبر جميل. يجمّل الله الصبر ولا يجعله بشعا

الأب: صحيح سبحان الله على تعابير القرآن الكريم كلها ذات رقة وجمال. الله جمّلنا بالصبر.

الأم: اللهم آمين. وأما ما كان من امر يوسف، فلمّا رموه في البئر، اسبغ عليه الله الامن والطمأنينة، وبقال ان الله ارسل ملاكا ليؤنسه في البئر ويخفف عنه ويزيل حوفه ورعبه ويثبّته على الايمان وان الله لن يضيّعه وقد اعدّ له مستقبلا واعداً. وصادف مرور قافلة من التجار توقفوا عند البئر، وادلوا دلوهم ليشربوا فصعد فيه يوسف. فتعجبوا وقالوا هذا غلام حسن، سنأخذه الى عزيز مصر ليشتريه منا، وباعوه الى العزيز (وهو بمثابة وزير او رئيس وزراء)، بثمن رخيص وهم لا يدرون ماذا يبيعون. وأحبه العزيز الذي كان مؤتمنا على خزائن مصر، وأمر امرأته ان تكرمه، وقرر أن يتخذه ولدا من شدة ما وقع في قلبه من حب ليوسف.

الأب: غير ان امرأة العزيز فتنها حسن يوسف وجماله، وأغواها الشيطان، فراودته عن نفسها، وادخلته الى غرفة أغلقت جميع ابوابها، وعرضت نفسها عليه. فقال لها معاذ الله ان أخون الذي تربّيت عنده وأكرمني وتبنّاني. غير انها تمادت في اغرائه واغوائه حتى همّت به وهمّ بها، ولكن الله ارسل والله أعلم، جبريل فوقف بينهما حتى لا يزلّه الشيطان. فرجع الى رشده واستغفر الله وحاول الهرب منها فلحقته وتمسكت بقميصه حتى شقّته له.

الأم: وظهر زوجها فجأة عند الباب، فهرعت اليه تبكي وتتهم يوسف بأنه حاول أن يعتدي عليها، وطالبت بسجنه وتعذيبه. فلما سأله العزيز عن الذي تتهمه به امرأته، قال بل هي التي راودتني عن نفسي. فاحتار العزيز من يصدق، وكان يميل الى تصديق يوسف لما يعرف عنه الصدق والامانة، ولكنه ايضا لم يشأ ان يكذّب زوجته التي يحبها.

الأب: وانطق الله شاهدا من اهلها، يقال والله اعلم انه طفل صغير ما زال في المهد، انطقه الله لانه كان في الغرفة التي ارادت زوجة العزيز ارتكاب الفاحشة فيها. فقال للعزيز إكشف عن قميصه فإن رأيته مشقوقا من الخلف فيكون قد صدق وهي من الكاذبين. لان ذلك يعني انه كان يهرب منها فلحقت به وامسكت بقميصه حتى شق من الخلف. واما ان كان هو المعتدي وهي التي تدافع عن نفسها فلا بد ان تشق قميصه من الامام. فتحقق العزيز من الامر وراى ان قميص يوسف شق من الخلف وانها قد اتهمته بالباطل. فقال ان هذا من كيدكن ان كيدكن عظيم.

الإبن: الله اكبر. وهل نعرف اسم هذا الشاهد يا أبي.

الأب: قيل انه تكلّم أربعة في المهد وهم: ابن ماشطة بنت فرعون الذي انطقه الله ليثبّت امّه على ايمانها ولا تدع فرعون يسلبه منها. وشاهد يوسف الذي في هذه القصة. وصاحب جُريْج وهو طفل امرأة فاجرة ادّعت انها انجبته بفاحشة اقترفتها مع جريج الذي يدّعي التصوّف والايمان، فأنطق الله الطفل ليكذّب أمّه ويدلّهم على راعي الغنم الذي انجبته منه، وكانت المرأة قد القت هذه التهمة على جريج لرفضه الزنا  معها. والرابع هو سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام والذي سنذكر قصته قريبا. 

الابنة: الله يا ابي. اشكرك انا لم اكن اعلم بهؤلاء كلهم وكنت اظن ان سيدنا عيسى وحده الذي تكلم في المهد.

الاب: هذه هي غاية ما نحن نفعله يوميا في شهر رمضان المبارك .. أن نزيد المعرفة بقدر ما يلهمنا رب العالمين. 

الابنة: يقال ان امرأة العزيز كان اسمها زليخة وانه لما غلّقت الابواب على يوسف كان هذا الطفل الرضيع موجودا في الغرفة وهو ابن احدى قريباتها والله اعلم. ولمّا فتح يوسف الباب ووجد العزيز عليه قال سيدنا يوسف بعد ان سارعت امرأة العزيز باتهامه انه تعرّض لها: لو قلت اى شئ لن تصدقّنى فاستشهد بالطفل. وفجأة نطق الطفل وبهت الجميع.

الأم: صحيح يا ابنتي. كان اسمها زليخا ولم تكن تتوقع ان ينطق الرضيع بما شاهد. ولكن العزيز لم يرد ان تنتشر الفضيحة في القصر وتصل الى الملك فطلب من يوسف ان يكتم هذا الامر، وطلب من زوجته ان تتوب وتصطلح. ولكن نسوة المدينة وصلهن خبر يوسف، فراحوا يسخرون من امرأة العزيز لانها راودت خادمها عن نفسه، وهي مشغوفة بحبه. فلما سمعت بسخرهن ومكرهن، ارسلت اليهن تدعوهن الى بيتها للزيارة، وجهّزت لكل واحدة منهن متكأ تتكيء عليه. وضيّفتهم فاكهة وأعطت لكل واحدة منهن سكينا لتقشير الفاكهة. وحين عمدن الى استعمال السكين لقطع الفاكهة، أمرت يوسف ان يخرج عليهن..

الأب: فلما رأين حسنه وجماله، قلن هذا ليس بشر بل ملاك كريم. وبهتوا به ولم يشعروا ان السكاكين تقطع ايديهن بدلا من الفاكهة، ولم يحسّوا بألم ولا وجع. فقالت لهن هذا هو الذي لمتنني به. ولقد راودته عن نفسي فأبى واستعصم. ولئن لم يفعل الآن ما آمره به لأسجنّنه واعذبنّه عذابا شديدا.

الأم: فقدت امرأة العزيز رشدها، ولم تعد تتحكم بعواطفها وأفكارها، فقد شغفها حب يوسف وجماله ولم تعد ترى في الوجود غيره. والله يعصمه منها. ولمّا هددته بالسجن دعا ربه قائلا : (رب السجن احب الي مما يدعونني اليه، والا تصرف عني كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين). فاستجاب له ربه وصرف عنه كيدهن وهو السميع العليم. ولكن امرأة العزيز نفّذت تهديدها وادخلت يوسف السجن.

الأب: وفي السجن كان معه رجلين، رأى كل واحد منهما مناما رواه الى يوسف طالبا تفسيره. فقال الاول انه رأى نفسه في المنام يعصر خمرا. وقال الثاني أنه رأى نفسه في المنام يحمل خبزا فوق رأسه تأكل منه الطير. فأخبرهما يوسف ان الله قد منحه نعمة لم يمنحها لاحد، فهو بفضل من الله يستطيع ان ينبئّهم بالطعام الذي سياتيهم، قبل ان يأتيهم. وأعلمهما أنه على ملّة ابراهيم واسحق ويعقوب. ودعاهما لعبادة الله الواحد. وقال للاول انه سيرجع الى مركزه ويصبح ساقيا للملك. وأما الثاني فيصلب وتأكل الطير من راسه.

الأم: وسأل يوسف الذي سيصبح ساقيا للملك، تذكّرني عند الملك، وتشفّع لي كي يفرج عني. 

الابنة: أظن ان هذا كان خطأ سيدنا يوسف الذي جعله يمكث في السجن مدة اطول.

الأم: صحيح .. اذ عندما تحقّقت نبؤة يوسف وأفرج عن ساقي الخمر وصلب الآخر. ذكّره يوسف ان لا ينساه عند الملك. ولكن الساقي نسيه، وهذا والله أعلم لان يوسف طلب من غير الله ان يفرج عنه ضيق السجن، فلبث فيه بضع سنين أخرى عقابا له.

الأب: وفي احد الايام قال الملك لمستشاريه انه رأى مناما فيه سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف أي هزيلة الجسم، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. وطلب منهم ان يفسّروا ويأوّلوا له هذا المنام. فقالوا له لا تفسير لهذا المنام، فهو اضغاث احلام أي مجرّد كوابيس، ونصحوه ان لا يشغل باله بأمر هذا المنام.

الأم: هنا تذكّر ساقي الملك يوسف، وقال له انا اعرف من يستطيع تأويل منامك. فذهب الى يوسف وقصّ عليه منام الملك وطلب منه أن يفسّره له. فقال له يوسف، ارجع الى الملك وقل له تزرعون سبع سنين وتحصدون منها خيرا كثيرا، فكل ما تحصدونه تتركوه في سنابله، ولا تأكلون منه الا القليل. وبعد انقضاء سبع سنين وهي سنين الخير تأتي سبع سنون شداد تجدب بها الارض ولا ينبت فيها الزرع. وتأكلون في هذه السنين مما وفّرتم في السنين التي سبقت. وتابع قائلا ثم يأتي بعد ذلك عام يغاث فيه الناس جميعا، بمعنى انه سيكون فيه وفر من الغذاء يكفي بم يأتي من جوار مصر للتموين.

الأب: ويتّضح هنا انه لما جاء الساقي الى يوسف بشأن المنام، فسرّه له دون شروط، ودون ان يطلب منه ان يذكره عند الملك ليخرجه من السجن. بل دلّهم وارشدهم الى الخير وعلّمهم كيف يدّخرون حبوب سنين الخصب وكيف يقلّلون الاستهلاك في سنين الجدب. وهذا يدل على كمال العلم والرأي والفهم، كما يدل والله اعلم ان يوسف فطن انه أغضب الله سابقا فتجنّب اغضابه مرة اخرى.

الابنة: وكأن هذه الآية هي اول مباديء علم الاقتصاد!

الأب: صحيح يا ابنتي لذلك يقول العلماء ان سيدنا يوسف هو ابو علم الاقتصاد.

الأم: استأنس الملك بتأويل يوسف، وأمر ان يحضروه بين يديه، فلما جاء رسول الملك لاحضاره، قال له ارجع اليه واسأله ما بال النسوة اللآتي قطّعن ايديهن. فسألهن الملك فنفيْن عنه أية فاحشة او سوء. واعترفت امرأة العزيز انها هي التي راودت يوسف عن نفسه، وانه كان صادقا عفيفا. وقالت انا اعترف بذلك (ليعلم انني لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدي كيد الخائنين). وقالت انها لا تبريء نفسها من شر ما فعلته، (فإن النفس أمارة بالسوء، الا ما رحم الله ان الله غفور رحيم).

الأب: فلمّا علم الملك بحقيقة يوسف وانه صادق وبريء من تهمه وانه عالم رشيد أمر بإحضاره وعرض عليه مركزاً مرموقا في البلاط. فطلب منه يوسف ان يعيّنه على الخزينة، أي وزيرا للمال لانه يعرف كيف يحافظ على المال والرزق. فوافق الملك وجعله عزيز مصر، واستخلصه اليه وجعله من أكابر الاعيان. 

الابن: ولماذا اراد سيدنا يوسف هذا المنصب بالذات؟

الأب: ربما لانه قد اوحي اليه والله اعلم ان رؤيا الملك ما هي الا رسالة من الله ولا بد ان تتحقق يوما ما. وأنه لن يستطيع احد غيره ان يقوّم الوضع ويحافظ على المال والزرع غيره.

الأم: وقيل والله اعلم ان يوسف تزوّج من امرأة العزيز بعد موت زوجها، وبعد أن علم ان الله غفر لها وقبل توبتها، فوجدها عذراء، لان العزيز زوجها كان لا يأتي النساء قد انهكه الضعف والمرض. فولدت من يوسف افرايم ومنشا. والله اعلم.

الأب: وقيل ايضا والله اعلم ان يوسف كان يتكلم بلغات الارض. وكان يتعامل مع كل الوافدين الى مصر ويكلّم كل قوم بلغتهم. فذاع صيته في جميع الارض وعلا شأنه، واحبّه ملك مصر حبّا عظيما، وراح يقرّبه منه اكثر فأكثر ويستشيره بكل شاردة وواردة في أمور مملكته.

الأم: وكان الناس من كل حدب وصوب يأتون الى مصر ليشتروا منها الحبوب، بعد أن أتت سنون القحط، ولم يكن يوجد الغذاء الاّ فيها، بفضل خطة يوسف، الذي ادخر في سنين الخصب، ما يكفي مصر والبلاد الاخرى، فصاروا يقصدون مصر لشراء الغذاء. وكان من جملة الوافدين، أخوة يوسف قدموا الى مصر كي يتبضعوا مونة الموسم، فلما دخلوا الى السوق عرفهم يوسف ولم يعرفوه.

الابن: الهذا يقولون يا أبي ان مصر ام الدنيا؟ وانه اذا جاع العالم مصر تكفيه؟ 

الأب: ربما يا صديقي فكل قول له منبعه ولا يأتي من فراغ.

الأم: جهّز يوسف لاخوته البضاعة التي طلبوها ووضعها في رحالهم. وجاذبهم الحديث حتى اعلموه ان لهم اخا ايضا بقي عند والده لصغر سنه وهو بنيامين شقيق يوسف من امه راحيل. فطلب منهم ان يأتوا به في المرة القادمة ليزيدوا كيلهم وراح يرغّبهم ويرهبهم على ذلك، حتى وصل الامر ان أخبرهم انه سيمنع الكيل عنهم حتى يأتوا بأخيهم ولكنه لم يفعل ذلك. لكن الاخوة رجعوا من عنده الى ابيهم وهم مقتنعين انهم ليس معهم البضاعة التي اتوا الى مصر من اجلها.

الأب: عندما قصّ اخوة يوسف على ابيهم ما جرى لهم في مصر وكيف منع الكيل عنهم وافق يعقوب على ارسال بنيامين معهم بعد ان اخذ منهم موثقا وعهدا ان يحافظوا عليه ولا يضيعوه كما ضيّعوا اخاهم يوسف من قبل. فلمّا وجدوا ان بضاعتهم ما تزال في رحالهم، قالوا له يا أبانا هذه بضاعتنا ردت الينا فأرسل معنا أخانا نزداد في الكيل، فالظاهر ان عزيز مصر رجل خير ويود لنا الخير.

الأم: فسمح لهم بعد ان اخذ منهم العهد ان يحافظوا عليه وقال لهم لا تدخلوا مصر من باب واحد بل من ابواب متفرقة. حتى لا يحسدهم الناس وكاوا كلهم جميلي المنظر وتبدو عليهم علامات الوجاهة والله اعلم. وكان ذلك لغاية في نفس يعقوب قضاها، لان يعقوب كان يعرف ان امرا الهيا سوف يحدث، فقد منّ عليه الله بالبصيرة والعلم. وهو واحد من الانبياء الذين وصفه الله بأولي الايد والابصار.

الأب: فلما جاؤوا ونظر يوسف الى أخيه، رقّ له وكاد ان يكشف سره، ولكنّه استمسك، وأسرّ الى بنيامين انه أخوه يوسف، وطمأنه وقال له انّه قد وضع خطة ليجتمع بجميع اهله. فسرّ بنيامين كثيرا بلقاء يوسف ووافقه على خطته. 

الأم: فلما جهّزهم يوسف دسّ مكياله الخاص الذي يكيل به للناس، في راحلة اخيه بنيامين. ونشر خبر سرقة المكيال الذهبي وأعلن حالة الطواريء. وراح الجنود يفتشون في رحل الناس حتى وجدوه في راحلة بنيامين، فاتهموه بالسرقة.

الأب: فوجيء اخوة يوسف بارتكاب بنيامين جريمة السرقة وقالوا ليوسف كي يبرّءوا أنفسهم انه كان لهم اخا هو شقيق بنيامين من امه وقد سرق من قبل. فأسرّها يوسف في نفسه، ولم يجادلهم. لكن عندما استسمحوه لن يطلق سبيل اخيهم ويسجن واحدا منهم بدلا عنه رفض يوسف وقال معاذ الله ان نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده، ونظلم احدا بجرم الآخر.

الأم: فلما يأسوا من نجاة بنيامين، ذكّرهم كبيرهم بأن والدهم قد أخذ عليهم العهود والمواثيق، ولن يصدّق انّهم لم يفرطّوا به، وقد خذلوه من قبل في يوسف. فقال فارجعوا الى ابيكم وقولوا له ان ابنك سرق، وقال انه لن يبرح مكانه حتى يظهر الله امره. وقال لهم ان يُشهد عليهم اهل القرية ليعلم انهم لم يكذبوا عليه ولم يكونوا يعلمون الغيب وان بنيامين يسرق.

الأب: فلمّا وصلوا الى ابيهم واخبروه الخبر، لم يصدّقهم، وقال جملته المؤثورة "فصبر جميل". ودعا الله ان يردّ إليه جميع أولاده، ثم ابتعد عنهم متذكّرا يوسف وبكى حتى ابيضت عيناه من البكاء وأصيب بالعمى من الحزن. فأنّبوه واتهمّوه انه يحرّضهم على بعضهم وابدوا خشيتهم ان يصيبه سوءا ويموت بحسرته. 

الأم: قال انما اشكو همي وحزني الى رب العالمين، وانا اعلم من الله ما لا تعلمون. وقال لهم اذهبوا لتستطلعوا اخبار يوسف واخيه ولا تيأسوا من رحمة الله، فلا ييأس من رحمة الله غير القوم الكافرين.

الابن: اذن كان يعلم سيدنا يعقوب بكل ما يحدث؟

الأب: ربما لانه لم يياس قط من رحمة الله ولكنه كان بانتظار اشارة من ربه على ان ابنه ما زال على قيد الحياة. وعلم ان هذه هي الاشارة. فطلب من بنيه ان يذهبوا ويتحسّسوا اخبار يوسف واخيه! ربما لانه كان يشعر ان الولدين قد التقيا وهما الآن معاً. 

الأم: سبحان الله ... لذلك ربما اراد الله ان يُنهي هذه القصة نهاية سعيدة بعد كل المآسي والاحزان التي حصلت. فلما رجع الاخوة الى يوسف وقالوا له، لقد مسّنا الضر نحن واهلنا، وطلبوا منه ان يساعدهم، ويرجع لهم اخاهم، لان والدهم قد اصابه الحزن الشديد، بفقده ابنا آخرا. قال وهل تذكرون يوسف، وكشف لهم عن رأسه فعرفوه.

الأب: فاعترفوا بذنبهم، واقرّوا ان الله فضّل يوسف عليهم، وطلبوا منه السماح والعفو. فقال لهم، لا بأس عليكم اليوم، لقد عفا الله عنكم، وغفر لكم، وهو الغفور الرحيم، وهو أرحم الراحمين. واعطاهم قميصه وقال لهم اذهبوا بهذا القميص، فألقوه على وجه ابي يرتد اليه بصره واتوني به وبكل اهلي. 

الأم: هنا وكأن رب العالمين يريد ان يوحي في القصة ان يوسف نبيّ مكلّف من الله وان معجزة رد البصر الى يعقوب ستكون عن طريق يوسف نفسه، الا انه لم يشر الى ذلك صراحة كما فعل في سرد قصص الانبياء والرسل. ويقال والله اعلم ان الله اراد ان تكون فرحة يعقوب بخبر رجوع يوسف عن طريق قميص ليوسف بعد ان كان قد جاءه خبر موته بدليل دم كذب على قميصه. 

الأب: فلما توجهوا الى ابيهم وباتوا على قرب من داره، قال يعقوب لاهل بيته، اني لاشتّم ريح يوسف، فقالوا له تظل تذكر يوسف، وانت تعلم انه ميت، انك لفي وهم كبير. فلما وصل ابناؤه، والقوا على وجهه قميص يوسف، ارتد بصره، قال الم اقل لكم اني اعلم من الله ما لا تعلمون. فبكى الجميع وطلبوا من يعقوب ان يغفر لهم فوعدهم ان يطلب لهم الغفران من الله.

الأم: ثم توجّه يعقوب واولاده للقاء يوسف، ولما اقتربوا ركب يوسف بصحبة الملك للقاء يعقوب عند ابواب مصر. وعندما وقف يوسف امامهم سجد له اخوته جميعا وهم احد عشر اخا وامه وابيه، فقال يوسف لابيه، يا أبي هذا ما رأيته في المنام، فقال يعقوب، اجل، واني كنت متأكدا من انني ساراك قبل ان أموت، وان الله لن يخذلك ولن يخذلني فيك. وانه سيهب لك ما يعوضك، والحمد لله رب العالمين الذي احياني لارى هذا اليوم العظيم.

الأب: وقال يعقوب لاولاده عندما حضره الموت، ماذا ستعبدون من بعد موتي، قالوا سنعبد الهك واله ابآئك ابراهيم واسماعيل واسحق، وهو اله واحد لا اله الا هو سبحانه وتعالى، ونحن له مسلمون. فأوصى يعقوب بنيه واحدا واحدا واخبرهم بما سيكون من امرهم وبشّر ابنه يهوذا بخروج نبي عظيم من نسله تطيعه الشعوب وكان يعني بهذا سيدنا عيسى ابن مريم والله أعلم.

الأم: وعندما مات يعقوب بكى عليه كل اهل مصر وامر يوسف الاطباء فطيّبوه بطيب ومكث فيهم اربعين يوما، ثم استأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع ابيه ليدفنه عند اهله فأذن له فخرج معه أكابر مصر وشيوخها فلما وصلوا الى مدينة حبرون دفنوه في المغارة التي كان قد اشتراها ابراهيم الخليل، ثم رجعوا الى بلادهم، وأكرم يوسف اخوته فأقاموا معه في مصر.

الأب: قصة يوسف عليه السلام، هي الرواية الوحيدة في القرآن الكريم التي تختلف عن بقية قصص الانبياء، فجاءت قصص الأنبياء في عدة سور، بينما جاءت قصة يوسفف كاملة في سورة واحدة. وقد وصفها الله "بأحسن القصص" (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).

الأم: اختلف العلماء لمَ سُمّيت هذه القصة أحسن القصص؟ قيل ربما لإنها تنفرد من بين قصص القرآن باحتوائها على عالم كامل من العبر والحكم.. وقيل لأن يوسف تجاوز عن إخوته وصبر عليهم وعفا عنهم.. وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين، والعفة والغواية، وسير الملوك والممالك، والرجال والنساء، وحيل النساء ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه، وتعبير الرؤيا وتفسيرها، فهي سورة غنية بالمشاهد والانفعالات.. وقيل: إنها سميت أحسن القصص لأن مآل من كانوا فيها جميعا كان إلى السعادة.

الأب: ثم يكشف الله تعالى مضمون القصة البعيد في بدايتها (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). لأن الحقيقة شيء يختلف عن الظن تماما. فكانت المحن والفتن أول درجات السلّم الذي صعده يوسف في طريقه إلى المجد.. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) .. ينفذ تدبيره رغم تدبير الآخرين. ينفذ من خلاله تدبير الآخرين فيفسده ويتحقق وعد الله، وقد وعد الله يوسف بالنبوة.

الأم: ويبين لنا المولى عز وجل كرمه على يوسف فيقول: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). كان يوسف أجمل رجل في عصره. وأوتي رشدا وعلما بالحياة وأحوالها. وأوتي أسلوبا في الحوار فكان شخصية إنسانية لا تقاوم.

الأب: بدأت محنته الاولى بأن تآمر عليه اخوته والقوه في البئر بقصد التخلص منه. ويقال ان الله ارسل له ملاكا في البئر يطمئنه ويهديئ من روعه ويخبره انه سيكون له شأنا عظيما في الحياة.

الأم: وتبدأ محنة يوسف الثانية عندما راودته امرأة العزيز عن نفسها حتى همّ بها لولا ان منعه الله عن ذلك. (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ - وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ). وبرهان ربه هو ايضا الملاك الذي فصل بين يوسف وبين زوجة العزيز ليمنع الفاحشة.

الأب: فيمتنع يوسف عن الفاحشة (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ويردّ عنه المرأة، ويرفض أن يخون من أحسن اليه وآواه في منزله.

الأم: وكان السجن محنته الثالثة الا انه فضّل السجن عن معصية الله فقال (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).

الأب: دعا يوسف الله دعاء الإنسان العارف ببشريته، ليعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء. (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) واستجاب له الله. وصرف عنه كيد النسوة.

الأم: وربما كان دخوله للسجن بسبب انتشار قصته مع امرأة العزيز ونساء طبقتها، فلم يجد أصحاب هذه البيوت طريقة لإسكات هذه الألسنة سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل الآيات على برائته. (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)

الأب: دخل يوسف السجن وكان بالنسبة إليه مكانا هادئا يخلو فيه ويفكّر في ربه. وانتهز فرصة وجوده في السجن، ليقوم بالدعوة إلى الله. مما جعل السجناء يتوسّمون فيه الطيبة والصلاح وحسن السلوك.

الأم: ورد في إحدى الرويات أنه جاءه جبريل قال: يا يوسف من نجّاك من إخوتك؟ قال: الله. قال: من أنقذك من الجب؟ قال: الله. قال: من حرّرك بعد أن صرت عبدا؟ قال: الله. قال: من عصمك من النساء؟ قال: الله. قال: فعلام تطلب النجاة من غيره؟ بمعنى طلبه من رفيق السجن ان يذكره عند الملك.

الأب: ولما حان وقت الفرج بأمر الله وسُئِلَ يوسف عن تفسير حلم الملك.. قام بتفسير الرؤيا لكنه رفض الخروج من السجن قبل ان تظهر برائته وتُعلن على الملأ.

الابن: الله ما اطهرك يا يوسف تريد ان تظهر امام الناس من دون ان تكون عليك اي شائبة.

الأم: لم يقم يوسف عليه السلام بالتفسير المباشر المجرّد للرؤيا. وإنما قدّم مع التفسير النصح وطريقة مواجهة المصاعب التي ستمر بها مصر. أفهم يوسف رسول الملك أن مصر ستمر عليها سبع سنوات مخصبة تجود فيها الأرض بالغلات. وعلى المصريين ألا يسرفوا في هذه السنوات السبع. لأن وراءها سبع سنوات مجدبة ستأكل ما يخزنه المصريون، وأفضل خزن للغلال أن تترك في سنابلها كي لا تفسد أو يصيبها السوس أو يؤثر عليها الجو.

الأب: زاد يوسف تأويله لحلم الملك بالحديث عن عام لم يحلم به الملك، عام من الرخاء. عام يغاث فيه الناس بالزرع والماء، وتنمو كرومهم فيعصرون خمرا، وينمو سمسمهم وزيتونهم فيعصرون زيتا. كان هذا العام علما خاصا أوتيه يوسف. فبشّر به الساقي ليبشر به الملك والناس.

الابنة: وماذا حصل لزليخا امرأة العزيز؟

الأب: حسب السياق القرآني لنا فإن اعتراف امرأة العزيز، (أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) شهادة كاملة بإثمها. ومحاولة لتصحيح صورتها في ذهنه(ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). وطلب غير مباشر ان يغفر الله لها (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

الأم: إن تأمّل الآيات يوحي بأن امرأة العزيز قد تحوّلت إلى دين يوسف. وما سجن يوسف الاّ نقلة هائلة في حياتها. فآمنت بربه واعتنقت ديانته. والله أعلم

الأب: نستطيع ان نجزم ان الله اتم نعمته على سيدنا يوسف، وكان اول عالمٍ من نوعه حيث وضع علم الاقتصاد بوحي من رب العالمين. بدليل ان القرآن الكريم ذكر تفسير حلم الملك على لسان يوسف عليه السلام، بطريقة علمية اقتصادية، علّمت الملك كيف يصون مملكته عند الرخاء وعند الاملاق.

الإبنة: والله هذا صحيح يا أبي. انّ هذا هو أساس علم الاقتصاد.

الأب: والى اللقاء غدا انشاء الله مع نبي آخر.

سامي الشرقاوي

ليست هناك تعليقات: