الأحد، 25 ديسمبر 2016

2 قصة ادريس عليه السلام

رمضانيات
حلقات يكتبها سامي الشرقاوي
الحلقة الثانية
ادريس عليه السلام

اجتماع عائلي حول مائدة رمضان
الجميع بانتظار آذان المغرب يرفع لوقت الصلاة والافطار
يتسامر الصائمون حول الطاولة فيبدأ كبير العائلة كلامه

الأب: انتهينا بالأمس أن ٍسيدنا ووالدنا آدم توفاه الله وأوصى ابنه شيث من بعده ليقوم بزمام الامور ويواصل عمل بناء هذه الحياة التي أرادها الله أن تكون على كوكب الارض. واليوم سنأتي على ذكر سيدنا إدريس الذي هو ثالث الانبياء بعد سيدنا آدم وسيدنا شيث، وهو سادس حكّام الارض لأنه إدريس بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن آدم.

الأم: ويقال أن كل أهل تلك الأزمنة البدائية كانوا صالحين لا يشوبهم ضلالات ولا كفر، حتى ورد ببعض الأخبار أن الملائكة كانت تظهر عيانا أمام أهل تلك الأزمنة وتسلّم عليهم ... وبالتالي فإن مجتمعهم كان مليئاً بالصالحين، وكان أشهر الصالحين في ذلك الزمان خمس هم : ود – سواع – يغوث – يعوق – نسر.

الإبنة: ولكن هؤلاء أسماء أصنام أتى ذكرهم في القرآن الكريم!

الأب: أجل، ولكن لنصبر قليلا لإيضاح الامر.

الإبنة: آسفة يا أبي لتسرّعي هذا.

الأب: أبدا هذا دليل على سعة اطّلاعك. على كل حال في زمن ادريس عليه السلام، مات هؤلاء الصالحون، فحزن الناس عليهم حزنا شديدا ... وفكّروا ببناء التماثيل لتجسيد صورهم و تخليد ذكراهم ....فنهاهم إدريس عن ذلك خشية أن يعبدوهم بعد نحت التماثيل لهم. ولكنهم أبوا واستمرّوا في نحت التماثل ثم عبدوها بعد أن أغواهم الشيطان. وتلك التماثيل التي جاء ذكرها في القرآن الكريم (وقالوا لا تذرُنَّ ءالهتُكم ولا تذرُنَّ وَدًّا ولا سُواعًا ولا يغوثَ ويَعوقَ ونسرًا).

الأم: وكان بنو شيت من قوم إدريس أيضا ولكنهم الصفوة المختارة، وكانوا مميزين عن غيرهم لأنهم آمنوا بما كان يدعو اليه ادريس عليه السلام، وكان عددهم ما يقارب الالف تقريبا. والله أعلم.

الأب: اذن صار هناك فئتان من الناس، الفئة المؤمنة من ابناء شيت والفئة التي أشركت بالله وابتعدت عن سيدنا ادريس.

الإبن: وماذا فعل سيدنا ادريس؟

الأب: انهمك سيدنا ادريس عليه السلام بوعظ الناس وارشادهم بما هداه اليه الله وأوحى له به. وراح يؤسس للشرائع ويعلّم القوم الايمان ويحببه اليهم. ولكن ذلك لم يكن العمل الوحيد لادريس عليه السلام. فقد آتاه الله من العلم ما استطاع به ان يؤسس اولويات العلوم بما فيها العلوم الطبية والبيئية والاجتماعية.

الإبنة: وكيف كان ذلك؟

الأم: يقال أنه عليه السلام أول من أكتشف الخياطة و تعلم كيف يخيط وعلّم قومه. وأول من تعلّم الكتابة وبماذا يكتب وعلّم قومه. وأول من أكتشف علم الحساب والفلك والنجوم وأول من صنع الادوات والآلات وأول من أستخدم الدواب والخيول للهجرة بها والله أعلم.

الأب: وكل هذا يسمّى أولّيات إدريس ....... فكانت سنّته تفعلها الاجيال بعده ولا تستغنى عنها أبدا كالخياطة مثلا و الكتابة ... فبدون الخياطة لما اكتسى الناس ولبسوا الثياب، ومن غير الكتابة لما كانت الحضارات القديمة سجّلت أحداثها.

الأم: لم يكن القلم معروفا قبله، فتعلمه منه قومه وتبعه في ذلك سائر الشعوب وتوارثوا عنه المعرفة. وكان كل زمن يأتي تتعلم أجياله ما علّمهم. وكان يلقّب بأبي المعرفة أو هرمس الهرامسة. وقد ولد إدريس في العراق ثم رحل الى مصر ليبدأ من هناك سيرة حياته كنبي ورسول ورجل علم.

الأب: لذلك نرى أن الحضارة السومرية والحضارة المصرية وهما حضارتين عاش فيهما سيدنا ادريس عليه السلام، كانوا أول من خطّوا بالقلم وأول من دوّنوا الاحداث على الصحف و الجدران و المعابد.

الإبنة: سبحان الله، أنا لم أكن أعرف أن ادريس هو أبو الحضارتين العراقية والمصرية.

الإبن: ولم أكن أعلم أنه أبو المعرفة.

الأم: لولا إدريس عليه السلام لما كنا نجد آثار العراق محفورة بكتابات مسمارية أو نحتية حفرية، ولا آثار مصر وهي المكان الثاني لإدريس، مكتوبة بخطوط القلم المعروف بألوانه وأشكال كتاباته المتعددة على الجدران المصرية كما نراها اليوم. كما نلاحظ أن النقوش قد أُستخـدِم فيها الكتابة بالألوان السائلة الـشبه الحبرية، كما أن في مصر أيضا آثارا بها نقوش نحتية بالحجارة كما بالعراق .

الأب: ولأن إدريسا كان أول من نظر في علم النجوم والحساب، أخذ قومه عنه في العراق هذه العلوم الحسابية والفلكية، ثم انتقل لمصر بعد ذلك فتعلّم المصريون من إدريس هذا العلم وبرعوا فيه.

الأم: ولأن إدريسا لمّا أنبأه الله بحلول الطوفان في زمن سيأتي بعده، خاف على علومه وتعاليمه الفريدة. ففكّر في ماذا يصنع ليحمي صناعاته وكتاباته من الغرق والضياع في الطوفان؟ وبدأ ببناء إنشاءات عديدة من المباني الأهراميّة والمعابد والأماكن التي يمكن أن تكون بمنأى عن الاضرار التي ستنجم عن هذا الطوفان. وراح يخزّن في تلك الانشاءات جميع أعماله العلمية ليحميها من التلف. وخط بيده على جدرانها علومه و حكمه و اقواله لكي لا تندثر وتضيع، كما كتب علومه و أقواله على الورق والجلود.

الإبنة: وهل يعني هذا أن ادريس هو أول من بنى الاهرامات؟

الأب: هكذا يقال ويروى والله أعلم.

الأم: لقد كان ادريس صدّيقا نبيّا، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة فكان لا يفتر عن قرائتها لا ليلا ولا نهارا، وكانت الملائكة تأتي لمصافحة ادريس وكان يرفع له كل يوم من العبادة بقدر ما يرفع لغيره من كل الناس حتى تعجبت منه الملائكة و حسده إبليس اللعين و لم ير له عليه سبيلا، اذ كان عليه السلام عنده شدة و صلابة في امره و نهيه.

الإبنة: وهل كانت هذه الصحف فيها العلوم التي حفظها سيدنا ادريس وعلّمها الى الاجيال؟

الأب: ربما .... لأننا كما علمنا الى الآن انه اول من خط بالقلم واول من كتب الصحف و اول من نظر في علم النجوم و الحساب. وهو اول من خاط الثياب ولبس المخيط. كما أنه كان كثير الدعاء والتسبيح ويقال انه اذا خاط يسبح الله عند كل غرزة من الابرة فاذا غفل وخاط يفتق ما خاطه بغير تسبيح. لذلك والله أعلم كان في تلك الصحف جميع هذه العلوم اضافة الى الشرائع السماوية.

الأم: كان سيدنا ادريس لا ياكل الا من كسب يده و كان يخيط للناس بالاجرة وكان اول من صنع المكيال وقيل قبل زمن ادريس كان الناس يلبسون الاردية بغير خياطة فلما صنع ادريس الخياطة و خاط استحسن الناس ذلك و لبسوا المخيط.

الإبن: وما قصة رفعه الى السماء؟

الإبنة: (واذكر في الكتاب ادريس انه كان صدّيقا نبيا – ورفعناه مكانا عليّا)

الأب: يقال والله أعلم أن السبب في رفع إدريس عليه السلام مكانا عليّا، أنّ الملائكة أحبّته حبّا لا يوصف بسبب كثرة تعبّده، ولأنه كان تلميذا لهم يعلّمونه العلوم التي علّمها الله لهم، وكان تلميذا نجيبا مطيعا يتلقّى عنهم العلوم، وكانوا يأنسون به ويستمتعون بقضاء الوقت والجلوس معه. ويقال أن ملك الموت اشتاق اليه يوما فتخفّى على هيئة رجل عجوز ضعيف وطرق بابه وقت الافطار وكان إدريس صائما في ذلك اليوم.  فدعاه إدريس ليأكل معه فأبى، وكرّر ذلك ثلاث ليال متواصلة حتى انكره إدريس وقال له في الليلة الثالثة: اني اريد ان اعلم من انت؟ فقال الملك: انا ملك الموت استأذنت ربّي ان ازورك واصاحبك فأذن لي في ذلك.

الأم: فطلب منه إدريس أن يذقه الموت حتى يهون عليه عندما يحين وقته، فأماته لبرهة ثم أحياه. وقال له أدخلني النار حتى أهابها أكثر، فأدخله فترة في النار وأخرجه منها. ثم سأله أن يدخله الجنة برهة لتزيد رغبته فيها، فأدخله فيها ولمّا أراد أن يخرجه منها بعد فترة، تمنّع إدريس وقال له لا أخرج منها أبدا.

الأب: فاحتار ملك الموت في أمره ولم يدر ما يفعل، حتى جاءه إشارة من الرحمن أن إدريس فعل ما فعل بأمر من الله، وأن الله شاء أن يبقيه في الجنة ليتنعّم فيها ما شاء من الوقت.

الإبن: سبحان الله العلي العظيم.

الأم: ويقال أيضا والله أعلم ان الله قد أوحى الى ادريس أني أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني آدم، فأحب ادريس أن يزداد عملاً، فأتاه أحد الملائكة يوما وسأله إن كان يريد أي شيء يلبّيه له. فسأله إدريس أن يأخذه برحلة الى السماء، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة شاهد الملاك ملك الموت فسأله من معك؟ فقال: إدريس هو ذا بين جوانحي. فقال ملك الموت: يا للعجب! بُعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟! فقبض روحه هناك. فذلك قول الله عز وجل (وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً). والله أعلم.

الأب: لا بدّ لي أن أزيد في شأن إدريس والآية الكريمة (ورفعناه مكانا عليا) قناعتي الشخصية، أن هذا المكان العلي الذي رفع الله ادريس اليه، ما هو الا اشارة الى أرفع الدرجات العلمية. والتي تميّز ادريس بهذا المكان عن باقي البشر، لأنه كان استاذهم ومؤسس علومهم. لذلك فإن الله رفعه الى أعلى وأرفع مكان في العلم والمعرفة، بسبب امتلاكه للعلوم والمعرفة وتعليمها وحفظها ونشرها الى كل البشر من بعده والله أعلم.

الأم: (واذكر في الكتاب ادريس انه كان صديقا نبيا. ورفعناه مكانا عليا)- صدق الله العظيم. فسيدنا ادريس اذن هو اول من أثنى عليه الله بعد آدم، ووصفه بالنبوة والصدّيقية. وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه لما عرج الى السماء، رآه في السماء الرابعة.

الأب: بعد رحيل سيدنا آدم وولده سيدنا شيث عليهما السلام اختار الله سبحانه وتعالى إدريس عليه السلام ليكون نبياً من بين جميع ولد آدم وليكون سادس من يحكم الأرض وكان يتّصف بالحكمة فقد أدرك ثلاثمائة وثماني سنين من حياة جده الخامس سيدنا آدم عليه السلام من مجموع الألف عام التي عاشها سيدنا آدم عليه السلام.

الأم: عرف عن سيدنا إدريس الحكمة والفكر وجمال الوجه وخضوب اللحية وعرض المنكبين وتمام القامة وضخامة العظام وقلة اللحم وبراقة العينين وكثرة الصمت والتأني في الكلام وسكون الأعضاء وكانت بوجهه عبسة حزن وإذا مشى في الأرض كسر نظره. والله أعلم

الأب: وعندما تولى سيدنا إدريس الحكم والنبوة ظل على شريعة سيدنا آدم وولده شيث وأضاف عليها ما أملاه الله عليه ليشرّعه. فلما رأى إعتداء قبيلة قابيل على المؤمنين وانتشار الفساد، كان أوّل من قاتل في سبيل الله وأوّل من غنم. كما كان أول من أعدّ جيشاً بالخيول والمشاة حارب به وجاهد وانتصر به على فلول الفساد ومن هنا بدأ الصراع بين الخير والشر.

الأم: قرّر سيدنا ادريس عليه السلام ان يرحل الى مصر. فأمر من معه أن يرحلوا معه عن وطنهم العراق فثقل على هؤلاء الرحيل وقالوا له: وأين نجد مثل بابل إذا رحلنا؟ وبابل بالسريانية تعني النهر، كأنهم عنوا بذلك دجلة والفرات، فقال لهم: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره أي نهرا غيره فلما خرج سيدنا إدريس عليه السلام ومن معه من العراق ساروا إلى أن رأوا النيل وفيه واديًا خاليًا فوقف سيدنا إدريس على النيل فنزل فيه وأخذ يتفكر في عظيم قدرة الله سبحانه ويسبح الله سبحانه وتعالى.

الأب: وأشار القران الكريم الى ادريس مرّتين مرّة وصفه بالنبي الصدّيق وانّه رفعه مكانا عليا ومرّة انّه كان من الصابرين مثل اسماعيل وذي الكفل وقد ادخلهم الله جميعا في رحمته. وقد جمع الله لإدريس الصحف التي نزلت على ابائه آدم وشيث وزاده ثلاثين صحيفة كما قال تعالى: (ان هذا لفي الصحف الاولى) في اشارة الى صحف آدم وشيث وادريس.

الأم: بعد أن كفر بعض القوم في عهد إدريس، وعبدوا أصناما نحتوها، تطوّر الكفر الى الفساد، وانغمس الكفّار في اللهو والفسق والمجون، وصاروا يمارسون السحر ويعلّمونه للناس ويرتكبون بواسطته كثيرا من الشرور. فكانت مهمة ادريس صعبة وشاقة في محاربة كل تلك الشرور. لهذا يشير الله الى انه كان صابرا على كل هذه الملمّات وتلك المهام. (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ).

الأب: كما كان عليه السلام عالما فطنا عاقلا لا يضيع وقته عبثا وقد آتاه الله معرفة النجوم والحساب. فكان يعرف اسماء النجوم ويعرف حركة الكواكب ودلائلها على تقلب الاحوال الجوية وهو ما يعرف اليوم بعلم الفلك.

الأم: وألهمه الله معرفة الطب فبرع فيه وكان يصف للمرضى الدواء الذي يقضي على امراضهم واوجاعهم. ويقال ان سر الطب والكيمياء يرجع الى ملك فرعوني يدعى هرمس، هو الذي نشر هذا العلم وأخذ عنه العلماء الاغريق، ويقال ان هذا الملك قد أخذ السر عن سيدنا ادريس الذي يرجع اليه الفضل في علم الطب والكيمياء. لذلك كان المصريون يطلقون عليه لقب هرمس الهرامسة. ويقال ان اسم ادريس جاءه من كثرة دراسته للعلم  والله اعلم.

الإبنة: اذن فإن سر المصريين في علم الكيمياء والطب يعود الى سيدنا ادريس عليه السلام؟

الإبن: كما أنه يعود اليه عليه السلام سر بناء الاهرام.

الأب: وكان عليه السلام أول من امتطى الفرس جهادا في سبيل الله وهو أول من أسر وسبى في الحروب. وهو أول من نزل عليه جبريل من الانبياء وأنزل له ثلاثين صحيفة بالاضافة الى صحف آدم وشيث.

الأم: كان نهر النيل يفيض ليملأ الاودية لانه لم يكن له مجرى محدّد وكان الناس يهربون من الفيضان الى اعالي الجبال والتلال حتى ينقص فينزلون ويزرعون في الاماكن التي لا تزال نديّة رطبة، فاهتمّ نبي الله بهذا الامر واراد ان يهيّأ للناس حياة مستقرّة غير مهددة بكوارث الفيضانات فصعد الى اول مكان يجري منه نهر النيل وقاس الارض وهذّب مجرى النهر على اصول هندسية سليمة.

الإبن:  فهو اذن اول مهندّس.

الأب: أجل فكان اول من تكلّم بعلوم البيئة والهندسة، ونشر تهذيب مجرى النيل في بلاد الحبشة والنوبة وغيرها واستعان بالله ووظّف الناس من جميع البلاد كي يضع حسابا مظبوطا لمجرى النيل وظبط سرعته وبطئه وفيضانه في مسيره بين الاودية حتى يصل الى مصر على نحو ما هو عليه الآن.

الإبنة: أول عالم بيئي!؟

الأم: وكانت له مواعظ وآداب فقد دعا إلى دين الله، وإلى عبادة الخالق جلّ وعلا، وتخليص النفوس من العذاب في الآخرة، بالعمل الصالح في الدنيا وحضّ على الزهد في هذه الدنيا الفانية الزائلة، وأمرهم بالصلاة والصيام والزكاة وغلظ عليهم في الطهارة من الجنابة، وحرّم المسكر من المشروبات وشدّد فيه أعظم تشديد.

الأب: وقيل إنه كان في زمانه 72 لغة يتكلّم الناس بها وقد علّمه الله تعالى منطقهم جميعاً ليعلّم كل فرقة منهم بلسانهم. وهو أول من علّم السياسة المدنية، ورسم لقومه قواعد تمدين المدن، فبنت كل فرقة من الأمم مدناً في أرضها وأنشأت في زمانه 188 مدينة.

الإبنة: يا الله، اهناك علما لم يخض فيه هذا النبي الجليل؟

الأم: سبحان الله، لقد أنزل الله عليه معظم العلوم الاساسية التي يحتاجها الانسان، للمضي ببناء مجتمعه وحضارته، فكان مجمع العلوم أو كما يقول عنه المصريون هرمس الهرامسة. وضع نواة العلوم والتقنيات، وبدأ باستعمال الالبسة والادوات، وخاض في علوم الارض والسماء، وكان دائما صابرا شاكرا حامدا.

الأب: ويقال انه فوق كل ذلك اشتهر بالحكمة فمن حكمه قوله "خير الدنيا حسرة، وشرّها ندم" وقوله "السعيد من نظر إلى نفسه وشفاعته عند ربه أعماله الصالحة" وقوله "الصبر مع الإيمان يورث الظفر".

الأم: لعبت الروايات والاساطير دورا في ذكر حياة سيدنا ادريس عليه السلام. فقيل انه كان في بدء نبوة إدريس عليه السلام، ملك جبار ركب ذات يوم في نزهه فمرّ بأرض كثيفة الخضرة كانت لعبد مؤمن فأعجبته، فسأل وزراءه : لمن هذه الارض ؟ قالوا : لعبد من عبيد الملك، فدعاه فقال له : أعطني أرضك هذه ، فقال له : عيالي أحوج إليها منك، قال : فبعها لي أكرمك في ثمنها ، قال : لا أمتّعك ولا أساومك فدع عنك ذكرها ، فغضب الملك عند ذلك وأسف وانصرف إلى أهله وهو مغموم مفكر.

الإبنة: في بداية نبوّته يعني انه كان ما زال في أرض العراق. أليس كذلك؟

الأم: أعود لأذكّر أن هذه فقط اسطورة تروى عنه عليه السلام، لا ندري مدى صدقها وتاريخها ومكانها.

الأب: كانت لهذا الملك زوجة كان معجبا بها ويشاورها في شؤون مملكته، فلما استقرّ في مجلسه بعث إليها ليشاورها في أمر صاحب الارض فخرجت إليه فرأت في وجهه الغضب ، فقالت له : أيها الملك ما الذي دهاك حتى بدا الغضب في وجهك. فأخبرها بخبر الارض وما كان من قوله لصاحبها ومن قول صاحبها له.

الأم: فقالت : أيها الملك إنما يغتّم ويأسف من لا يقدر على التغيير والانتقام وإن كنت تكره أن تقتله بغير حجة فأنا أكفيك أمره واصيّر أرضه بيدك بحجة لك فيها العذر عند أهل مملكتك. قال : وماهي ؟ قالت : أبعث إليه رجالا من قومي يأتوك به فيشهدوا عليه عندك إنه قد خرج من دينك فيجوز لك قتله وأخذ أرضه.

الأب: قال : فافعلي ذلك، فبعثت إلى قوم منهم فأتوها فأمرتهم أن يشهدوا على فلان عند الملك أنه قد تبرّأ من دين الملك فشهدوا عليه أنه قد تبرّأ من دين الملك فقتله واستخلص أرضه.  فغضب الله للمؤمن عند ذلك فأوحى إلى إدريس عليه السلام أن إئت عبدي هذا الجبار فقل له عني : أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت أرضه خالصة لك فأحوجت عياله من بعده وأجعتهم ؟ أما وعزّتي لانتقمنّ له منك في الآجل ، ولاسلبنكّ ملكك في العاجل ، ولاخرّبنّ مدنك ، ولاذلّن عزّك ، ولاطعمنّ الكلاب لحم امرأتك ، فقد غرّك يا مبتلى حلمي عنك .

الأم: فأتاه إدريس عليه السلام برسالة ربه وهو في مجلسه وحوله أصحابه . فقال : أيها الجبار إني رسول الله إليكم وهو يقول لك : أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت أرضه خالصة لك ، وأحوجت عياله من بعده وأجعتهم ؟ أما وعزتي لانتقمن له منك في الآجل ، ولاسلبنك ملكك في العاجل ، ولاخربن مدينتك ، ولاذلن عزك ، ولاطعمن الكلاب لحم امرأتك.

الأب: فقال الملك : اخرج عني يا إدريس فلن تعجزني بتهديدك، ثم أرسل إلى امرأته فأخبرها بما جاء به إدريس فقالت : لا يشغل بالك رسالة إله إدريس، أنا ارسل إليه من يقتله فتبطل رسالة إلهه وكل ما جاءك به ، قال : فافعلي، وكان لإدريس أصحاب مؤمنون يجتمعون إليه في مجلس له فيأنسون به ويأنس بهم ، فأخبرهم إدريس بما كان من وحي الله عزوجل إليه ورسالته إلى الجبار وما كان من تبليغ رسالة الله إلى الجبار ، فأشفقوا على إدريس وأصحابه وخافوا عليه القتل.

الأم: وبعثت امرأة الجبار إلى إدريس أربعين رجلا ليقتلوه فأتوه في مجلسه الذي كان يجتمع إليه فيه أصحابه فلم يجدوه، فانصرفوا وقد رآهم أصحاب إدريس فحسّوا أنهم أتوا إدريس ليقتلوه فتفرّقوا في طلبه فلقوه فقالوا له : خذ حذرك يا إدريس فإن الملك قاتلك ، قد بعث اليوم أربعين رجلا ليقتلوك فاخرج من هذه القرية. فخرج إدريس من القرية ومعه نفر من أصحابه، ثم ناجى إدريس ربه فقال : يا رب بعثتني إلى جبار فبلّغت رسالتك ، وقد توعّدني هذا الجبار بالقتل، بل هو قاتلي إن ظفر بي. فأوحى الله إليه : وعزّتي لأنفّذن فيه أمري، ولاصدقّن قولك فيه وما أرسلتك به إليه .

الأب: فقال إدريس : يا رب إن لي حاجة ، قال الله : سلها تعطها ، قال : أسألك أن لا تمطر السماء على أهل هذه القرية وما حولها وما حوت عليه حتى أسألك ذلك ، قال الله عزوجل : يا إدريس إذن تخرب القرية ويشتد جهد أهلها ويجوعون، فقال إدريس : أدري، قال الله : فإني قد أعطيتك ما سألت ولن امطر السماء عليهم حتى تسألني ذلك وأنا أحق من وفى بعهده، فأخبر إدريس أصحابه بما سأل الله عزوجل من حبس المطر عنهم وبما أوحى الله إليه ووعده أن لا يمطر السماء عليهم حتى يسأله ذلك.

الأم: فخرجوا من القرية وتفرّقوا في القرى، وشاع خبر إدريس في القرى بما سأل الله تعالى، وتنحّى إدريس إلى كهف في الجبل شاهق فلجأ إليه ووكّل الله عزوجل به ملكا يأتيه بطعامه عند كل مساء وكان يصوم النهار فيأتيه الملك بطعامه عند كل مساء، ووفّى الله عزوجل بعهده بأن قتل الملك وأخرب مدينته وأطعم الكلاب لحم امرأته غضبا للمؤمن.

الأب: وظهر في المدينة ملك آخر عاص فمكثوا بذلك بعد خروج إدريس من القرية مدة طويلة لم تمطر السماء قطرة من مائها عليهم ، فجهد القوم واشتدت حالهم وصاروا يمتارون الاطعمة من القرى من بعد. فلما جهدوا مشى بعضهم إلى بعض فقالوا : إن الذي نزل بنا مما ترون بسؤال إدريس ربه أن لا يمطر السماء علينا حتى يسأله هو، وقد خفي إدريس عنا ولا علم لنا بموضعه والله أرحم بنا منه، فأجمع أمرهم على أن يتوبوا إلى الله ويدعوه ويفزعوا إليه ويسألوه أن يمطر السماء عليهم وعلى ما حوت قريتهم.

الأم: فقاموا على الرماد ولبسوا المسوح، وحثّوا على رؤوسهم التراب ورجعوا إلى الله عزّ وجلّ بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرع إليه، وأوحى الله عزوجل إليه : يا إدريس أهل قريتك قد لجئوا إلي بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرع، وأنا الله الرحمن الرحيم أقبل التوبة وأعفو عن السيئة وقد رحمتهم، ولم يمنعني إجابتهم إلى ما سألوني من المطر إلا مناظرتك فيما سألتني أن لا امطر السماء عليهم حتى تسألني ، فاسألني يا إدريس حتى اغيثهم وامطر السماء عليهم .

الأب: قال إدريس : اللهم إني لا أسألك ذلك ، قال الله عزوجل : يا إدريس إسألني ، قال إدريس : اللهم إني لا أسألك، فأوحى الله عزوجل إلى الملك الذي أمره أن يأتي إدريس بطعامه كل مساء أن احبس عن إدريس طعامه ولا تأته به. فلما امسى إدريس في ليلة ذلك اليوم فلم يؤت بطعامه حزن وجاع فصبر. فلما كان في اليوم الثاني فلم يؤت بطعامه اشتد حزنه وجوعه، فلما كانت الليلة من اليوم الثالث فلم يؤت بطعامه اشتد جهده وجوعه وحزنه وقلّ صبره فنادى ربه : يارب حبست عني رزقي من قبل أن تقبض روحي ؟ !

الأم: فأوحى الله عز وجل إليه : يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيام ولياليها ، ولم تجزع ولم تنكر جوع أهل قريتك وجهدهم زمنا طويلا ؟ ! ثم سألتك عن جهدهم ورحمتي إياهم أن تسألني أن امطر السماء عليهم فلم تسألني وبخلت عليهم بمسألتك إياي فأذقتك الجوع فقلّ عند ذلك صبرك وظهر جزعك، فاهبط من موضعك فاطلب المعاش لنفسك، فهبط إدريس من موضعه يطلب أكلة من جوع.

الأب: فلما دخل القرية نظر إلى دخان في بعض منازلها فأقبل نحوه فهجم على عجوز كبيرة وهي ترقّق قرصتين لها على مقلاة فقال لها : أيتها المرأه أطعميني فإني مجهود من الجوع ، فقالت له : يا عبدالله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحدا - وحلفت أنها ما تملك شيئا غيره فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، قال لها: أطعميني ما امسك به روحي وتحملني به رجليّ، قالت : إنهما قرصتان : واحدة لي والاخرى لابني فإن أطعمتك قوتي مت، وإن أطعمتك قوت ابني مات.

الأم: فقال لها : إن ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فيحيا بها ويجزيني النصف الآخر فأحيا به. فأكلت المرأة قرصها وكسرت القرص الآخر بين إدريس وبين ابنها. فلما رأى ابنها إدريس يأكل من قرصه اضطرب حتى مات، قالت امه : يا عبدالله قتلت عليّ ابني جزعا على قوته؟! قال إدريس: فأنا احييه بإذن الله تعالى فلا تجزعي، ثم أخذ إدريس بكتف الصبي ثم قال : أيتها الروح الخارجة من بدن هذا الغلام بإذن الله ارجعي إلى بدنه بإذن الله وأنا إدريس النبي، فرجعت روح الغلام إليه بإذن الله فلما سمعت المرأة كلام إدريس وقوله : أنا إدريس ونظرت إلى ابنها قد عاش بعد الموت قالت : أشهد أنك إدريس النبي، وخرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية: ابشروا بالفرج فقد دخل إدريس قريتكم.

الأب: ومضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الملك الاول وهي على تل فاجتمع إليه أناس من أهل قريته فقالوا له: يا إدريس أما رحمتنا طوال هذه المدة التي جهدنا فيها مسّنا الجوع والجهد فيها؟ فادع الله لنا أن يمطر السماء علينا، قال: لا حتى يأتيني جبّاركم هذا وجميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك، فبلغ الجبّار قوله فبعث إليه أربعين رجلا يأتوه بإدريس، فأتوه فقالوا له: إن الجبّار بعث إليك لتذهب إليه فدعا عليهم فماتوا.

الأم: فبلغ الجبار ذلك فبعث إليه خمسمائة رجل ليأتوه به فقالوا له: يا إدريس إن الجبار بعثنا إليك لنذهب بك إليه، فقال لهم إدريس: انظروا إلى مصرع أصحابكم، فقالوا له: يا إدريس قتلتنا بالجوع ثم تريد أن تدعو علينا بالموت! أمالك رحمة؟ فقال: ما أنا بذاهب إليه، ولا أنا بسائل الله أن يمطر السماء عليكم حتى يأتيني جباركم ماشيا حافيا وأهل قريتكم معه.

الإبنة: ولماذا هذا العناد كلّه؟

الأب: فانطلقوا إلى الجبار فأخبروه بقول إدريس وسألوه أن يمضي معهم وجميع أهل قريتهم إلى إدريس حفاة مشاة، فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين له طالبين إليه أن يسأل الله لهم أن يمطر السماء عليهم ، فقال لهم إدريس: أما الآن فنعم ، فسأل الله تعالى إدريس عند ذلك أن يمطر السماء عليهم وعلى قريتهم ونواحيها فأظلتهم سحابة من السماء وأرعدت وأبرقت وهطلت عليهم من ساعتهم حتى ظنوا أنهم غرقى.

الإبن: ولماذا عاند عليه السلام ربه هكذا؟

الأم: الله أعلم، ولكن عندما نأتي على ذكر سيدنا موسى سنروي قصة له شبيهة بهذه. وأظن ان الافادة من هذه القصة أو الاسطورة تكون على النحو التالي: أولا اثبات ان دعوة ادريس مستجابة عند الله مهما كانت، وهذا لثقة الله بعبده ادريس. وثانيا لاثبات أن الرحمة هي صفة لله وليس للانسان ولو كان نبيا، فالانسان بطبعه جبار ظالم ولو على نفسه. وأخيرا والله اعلم ان ادريس كان ينوي أن يعلّم الكفار درسا لا ينسوه، وقد جاراه الله العليم بخطّته ونفذّها له كلها، غير ان الله ولأنه الرحمن الرحيم، قطع على ادريس فقط المدّة الزمنية رحمة بالناس والعباد.

الأب: وروي أيضا أن إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال: إني مشيت في الشمس يوما فتأذيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه ثقلها و احمل عنه حرها، فاستجاب الله له فأحس الملك الذي يحملها بذلك فسأل الله فأخبره بما كان من دعاء إدريس و استجابته فسأله تعالى أن يجمع بينه وبين إدريس و يجعل بينهما خلة فأذن له. ومن هنا بدأت صحبة إدريس مع الملائكة والله أعلم.

الأم: ذكرنا أنه يسمى عليه السلام في مصر هرمس الهرامسة، وقالوا: هو باليونانية إرميس وعرّب بهرمس، و معنى إرميس عطارد، وقال آخرون: اسمه باليونانية طرميس، وهو عند العبرانيين خنوخ وعرّب أخنوخ، و سمّاه الله عز وجل في كتابه العربي المبين إدريس.

الأب: وأقام إدريس ومن معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وطاعة الله عز وجل، و تكلّم الناس في أيامه باثنين و سبعين لسانا، وعلمه الله منطقهم ليعلّم كل فرقة منهم بلسانها، و رسم لهم تخطيط المدن. وجمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرّفهم بالسياسية المدنية، وقرّر لهم قواعدها فبنت كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها، و كانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة وثماني وثمانين مدينة أصغرها الرها وعلمهم العلوم المختلفة.

الأم: وعرفنا أنّه أول من استخرج الحكمة وعلم النجوم فإن الله عز وجل أفهمه سر الفلك وتركيبته ونقط اجتماع الكواكب فيه وأفهمه عدد السنين والحساب ولولا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك. و أقام للأمم سننا في كل إقليم تليق كل سنة بأهلها.

الأب: وقسّم الأرض أربعة أرباع وجعل على كل ربع ملكا يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، و تقدّم إلى كل ملك بأن يلزم أهل كل ربع بشريعة منهم آمون الملك الفرعوني الذي حكم مصر وأغناها بالعلم والمعرفة. والله أعلم

الأم: و يبقى ذكر سيدنا إدريس حيّا بين الفلاسفة وأهل العلم جيلا بعد جيل. فتعظيمهم له واحترامهم لساحته وإنهاءهم أصول العلم إليه يكشف أنّه أقدم أئمة العلم الذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكّر الاستدلالي والإمعان في البحث عن المعارف الإلهية أو هو أولهم (عليهم السلام).

ولنا لقاء انشاء الله في الغد مع سيدنا نوح وقصة الطوفان

سامي الشرقاوي

ليست هناك تعليقات: