الأحد، 25 ديسمبر 2016

28 قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

رمضانيات
الحلقة 28
عمر بن الخطاب
رضي الله عنه

حلقات يكتبها سامي الشرقاوي
اجتماع عائلي حول مائدة رمضان
الجميع بانتظار آذان المغرب يرفع لوقت الصلاة والافطار
يتسامر الصائمون حول الطاولة فيبدأ كبير العائلة كلامه

عمر بن الخطاب رضي الله عنه

الأب: سيدنا أبو حفص عمر بن الخطاب العدوي القرشي، هو ثاني الخلفاء الراشدين ومن كبار القادة في التاريخ الإسلامي ومن أكثرهم تأثيرًا ونفوذًا. وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن علماء الصحابة وزهّادهم. تولّى الخلافة الإسلامية بعد وفاة أبي بكر الصديق.

الابن: ولماذا لقّب بالفاروق؟

 الأب: كان رضي الله عنه قاضيًا خبيرًا اشتهر بعدله وإنصاف الناس من المظالم، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. وكان ذلك أحد أسباب تسميته بالفاروق، لتفريقه بين الحق والباطل.

الأم: وهو مؤسس التقويم الهجري، وفي عهده بلغ الإسلام مبلغًا عظيمًا، وتوسع نطاق الدولة الإسلامية حتى شمل كامل العراق ومصر وليبيا والشام وفارس وخراسان وشرق الأناضول وجنوب أرمينية والشرق الادنى. وهو الذي أدخل القدس تحت حكم المسلمين لأول مرة، وبهذا استوعبت الدولة الإسلامية كامل أراضي الإمبراطورية الفارسية الساسانية وحوالي ثلثيّ أراضي الامبراطورية البيزنطية.

الأب: تميّز عمر بعبقرية عسكرية خاصة، فكانت حملاته مدروسة ومنظمة استطاع من خلال الخطط التي وضعها للجيوش الاسلامية إخضاع الفرس الذين فاقوا المسلمين قوة، فتمكن من فتح كامل إمبراطوريتهم خلال أقل من سنتين. كما برز كقائد دولة فاقت قدرته وحنكته السياسية والإدارية كل التوقعات، واستطاع ان يحافظ على تماسك الدولة الاسلامية ويسرّع في نموها ويحمي وحدتها، ويعمل على تنوعها دينيا وعرقيا.

الأم: كان سيدنا عمر اصغر في العمر من الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثة عشر سنة. وكان منزل عمر في الجاهلية في أصل الجبل الذي يقال له اليوم جبل عمر. نشأ في قريش وامتاز عن معظمهم بتعلم القراءة. عمل راعيًا للإبل وهو صغير وكان والده غليظًا في معاملته. تعلم المصارعة وركوب الخيل والفروسية، والشعر. وكان يحضر أسواق العرب فتعلم بها التجارة، التي ربح منها وأصبح من أغنياء مكة. وكان سفير قريش، فإن وقعت حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيراً. وكان على دين قومه في الجاهلية ومغرمًا بالخمر والنساء.

الأب: وكان عمر بن الخطاب في  الجاهلية من ألد أعداء الإسلام وأكثر أهل قريش أذى للمسلمين، ومن شدة قسوته جنّد نفسه يتبع محمد أينما ذهب، فكلما دعا أحداً إلى الإسلام أخافه عمر وجعله يفر من تلك الدعوة. وبعد أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في مكة بالهجرة إلى الحبشة خاف عمر من تشتت قريش، فقرر الحيلولة دون ذلك بقتل النبي مقابل أن يقدم نفسه لبني هاشم ليقتلوه فيكون قد فدى قريش كي تتخلص من محمد ويقضي على الدين الجديد.

الأم: لكن كان عمر يخفي وراء تلك القسوة والشدة رقة نادرة. وكان يعيش في تلك الفترة صراعًا نفسيًا حادًا، فربّما يكون هؤلاء الناس على صواب. وكان يعجبه ثباتهم فيما يتعرضون له، إضافةً إلى أن محمدًا هو الصادق الأمين باعتراف أعدائه من القرشيين. وفي غمار هذا الصراع الداخلي ولأن من طبعه الحسم وعدم التردد، قرر أن ينتهي من كل ما يؤرقه، وأراد أن يخلص نفسه ويخلص مكة كلها ممن أحدث فيها هذه البدع وتلك المشاكل، فقرر أن يقوم بما فكر فيه كثير من مشركي قريش قبل ذلك، لكنهم لم يفلحوا فيه، ألا وهو قتل محمد.

الأب: ولمّا سن سيفه وخرج من داره قاصدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقيه في الطريق نُعَيم بن عبد الله العدوي القرشي وكان من المسلمين الذين أخفوا إسلامهم، فأخبره انه يقصد محمدا ليقتله، فقال له نُعيم: «والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الارض وقد قتلت محمدا ؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ فإن ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب قد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه؛ فعليك بهما.» فانطلق مسرعاً غاضباً إليهما، فوجد الصحابي خباب بن الأرت يجلس معهما يعلمهما القرآن، فضرب سعيدًا، ثم ضرب فاطمة ضربة قوية شقت وجهها، فسقطت منها صحيفة كانت تحملها، وحين أراد عمر قراءة ما فيها أبت أخته أن يحملها إلا بعد أن يتوضأ، فتوضأ عمر وقرأ الصحيفة وإذ فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى). فاهتز عمر وبكى ثم قال: ما هذا بكلام البشر، وأسلم من ساعته.

الابنة: الله الله . كيف تحولت القسوة والشدة والاصرار على الاذي والقتل الى رقة ورحمة وبكاء ومعرفة وايمان. لقد استجاب الله لدعوة سيدنا محمد اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين، عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام.

الأم: سبحان الله. (انك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء). خرج عمر بعد ذلك إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كان يجتمع النبي محمد بأصحابه وأعلن إسلامه هناك. وكان المسلمون قبل إسلام عمر وحمزة يخفون إيمانهم خوفًا من تعرضهم للأذى، لقلة حيلتهم وعدم وجود من يدافع عنهم، أما بعد إسلامهما فأصبح للمسلمين من يدافع عنهم ويحميهم، لا سيما أنهما كانا من أشد الرجال في قريش وأمنعهم، وكان عمر يجاهر بالإسلام ولا يخشى أحداً، فقام وقال للنبي: "يا رسول الله ألسنا على الحق؟"، فأجابه: "نعم"، قال عمر: "أليسوا على الباطل؟"، فأجابه: "نعم"، فقال عمر بن الخطاب: "ففيمَ الخفية؟"، قال النبي: "فما ترى يا عمر؟"، قال عمر: "نخرج فنطوف بالكعبة"، فقال له النبي: "نعم يا عمر"، فخرج المسلمون لأول مرة يكبرون ويهللون في صفين، صف على رأسه عمر بن الخطاب وصف على رأسه حمزة بن عبد المطلب وبينهما النبي محمد، حتى دخلوا وصلّوا عند الكعبة. ومن بعيدٍ نظرت قريش إلى عمر وإلى حمزة وهما يتقدمان المسلمين، فَعَلتْ وجوهَهُم كآبة شديدة. يقول عمر: «فسماني رسول الله الفاروق يومئذٍ».

الابن: سبحان الله. ما اجمل قصة ايمان سييدنا عمر

الابنة: وما اجمل سورة طه التي حوّلت عمر بن الخطاب من اشد الكفار الى اشد المؤمنين.

الأب: بالتأكيد كان إسلام عمر حدثًا بارزًا في التاريخ الإسلامي، فقويت به شوكة المسلمين، وأصبح لهم من يُدافع عنهم ويحميهم من أذى الكفار. وهو الوحيد الذي لم يهاجر متخفيا بل لبس سيفه ووضع قوسه على كتفه وحمل أسهمًا وعصاه القوية، وذهب إلى الكعبة حيث طاف سبع مرات، ثم توجه إلى مقام إبراهيم فصلى، ثم قال لحلقات المشركين المجتمعة: «شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه وييتم ولده أو يُرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي».

الابن: ما اشجعك ايها الفاروق

الام: وقد شهد عمر بن الخطاب كل الغزوات مع الرسول وفي غزوة بدر قتل عمر خاله العاص بن هشام. وفي غزوة أحد وقف يدافع عن رسول الله ضد من يحاول الوصول إليهم من القرشيين. وعاد إلى مكة مع باقي المسلمين بعد 8 سنوات من الهجرة، فدخلوها فاتحين. ويُقال أنه منح نصف ثروته لتسليح الجيش وإعداد العدّة لغزوة تبوك. ولما توفي رسول الله وشاع خبر انتقاله إلى الرفيق الأعلى، اضطرب المسلمون اضطرابًا شديدًا، وذهل بعضهم فلم يصدق الخبر وكان عمر منهم، فقام يقول: "والله ما مات رسول الله". حتى جاء أبو بكر وقرأ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). ثم تابع يقول: «ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت». فلما سمع عمر كلام أبي بكر وأيقن حق اليقين أن الرسول قد مات، هوى على ركبتيه يبكي، ثم قال: «والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعُقِرْت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي قد مات».

الأب: كان عمر بن الخطاب المساعد الأول لأبي بكر الصدِّيق وساعده الأيمن ومستشاره الأساسي طوال خلافته، وكان مستشاره العسكري الأبرز الذي ساعده في حروبه، لا سيّما حروب الردة. وقد قال أبو بكر الصديق مرة: "ما على ظهر الأرض رجل أحبّ إليَّ من عمر". وكان أبو بكر يستشير عمر في تعيين القادة العسكريين وعزلهم. كما كان عمر عوناً كبيراً له في وضع خططه العسكرية والاستراتيجية.

الأم: عندما اشتدَّ على أبي بكر مرض موته، استخلف عمر بن الخطاب من بعده وقال للناس: "أترضون بما استخلفتُ عليكم؟ فإني ما استخلفتُ عليكم ذا قرابة، وإنّي قد استخلفتُ عليكم عمرَ فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما آلوت من جهد الرأي"، فردَّ الناس: "سمعنا وأطعنا". ثم أحضر أبو بكر عمر وقال له: "إنّي قد استخلفتك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم"، ثم أوصاه بتقوى الله. فلما توفّي أبو بكر بعد ذلك بأيام، وقف عمر وخطب في الناس قائلاً: "إنَّما مَثَل العرب مثل جمل آنف اتَّبعَ قائده فلينظر حيث يقوده، وأمَّا أنا فوربِّ الكعبة لأحملنَّكم على الطريق!".

الأب: توقفنا بالامس عند معركة اليرموك وقلنا ان الفريقين الروم والمسلمين كانا يبليان فيها بلاء حسنا. ولكن القائد الاعلى للمسلمين ابو بكر توفي والمعركة في اوجها. ولما تولى عمر وأعقبه عمر كان اول امر له هو عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش الفاتحة، وحجته في ذلك انه لم يكن يريد ان يفتتن به المسلمون لانتصاراته المتوالية على الأعداء، فارسل إلى أبي عبيدة بن الجراح يعلمه بوفاة أبي بكر ويأمره بعزل خالد عن قيادة الجيوش وتعيينه مكانه. إلا أن أبا عبيدة استحى فلم يُعلم خالداً حتى انتهت معركة اليرموك بنصر المسلمين بقيادة خالد بن الوليد.

الأم: بعد ذلك توجَّه أبو عبيدة مع خالد لحصار دمشق، وتمكّنا من فتحها. في هذه الأثناء وصلتهما أنباء تجمُّع جيش كبير من الروم في مدينة بعلبك، وأنه يسير جنوباً إلى فلسطين، فقرر أبو عبيدة وخالد السير إليهما بسرعة واجتمعت جيوش المسلمين وجيوش الروم قرب موقع فحل جنوبي الشام، وانتصر المسلمون نصراً كبيراً. وبعد ذلك ولَّى أبو عبيدة بعض قادته على دمشق وفلسطين والأردن، وسار مع خالد نحو حمص ففتحاها ثم حماة واللاذقية وبعلبك وحلب واخيرا انطاكية في اقسى شمال الشام.

الأب: ثم امر عمر أن يتوجَّه عمرو بن العاص بجيشه إلى القدس، حيث مكث يحاصرها طويلاً، ثم كاد ييأس من فتحها نظراً لحصانتها الشديدة، فاستدعى أبا عبيدة، فجاءه ومعه المدد، ثم انضمَّ إليهما شرحبيل من الأردن، وأخيراً جاء خالد من قنسرين لينضمَّ إلى الحصار. وطال الحصار شهوراً كثيرة دون جدوى، حتى قرَّر واليها الاستسلام أخيراً، لكنه طلب شرطاً أخيراً، وهو أن يأتي الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه إلى المدينة ويفتحها، فاستشار عمر كبار الصحابة، غير أنهم اختلفوا، وانقسموا إلى فريقين أساسيَّين، واحد على رأسه عثمان بن عفان يرى عدم الاستجابة وحصار المدينة حتى استسلامها، والثاني وعلى رأسه علي بن أبي طالب يرى أنه ما من ضير في القبول. فقرَّر عمر الانحياز إلى رأي عليٍّ والقبول بالعرض. وكان عمر شديد الحرص على استشارة سيدنا علي بن الي طال خصوصا في المسائل المستعصية ويعمل برأيه وكان دائم القول " لولا علي لضاع عمر".

الابنة: سبحان الله. وكيف اختلف المسلمون وحوّلوا الخلفاء الى حالات سياسية ومذهبية والخلفاء الراشدون كانوا على هذا الحال من الصفاء والمودة والتعاون؟

الأب: والله يا ابنتي الخطأ اصلا في السياسة. والسياسة هي التي خلقت الفتنة. والجهل نمّى الحقد في قلوب الفرقاء. هم فرّقوا الدين والناس والملامة تقع على الجميع. فالله واحد وهو رب العالمين جميعا والاسلام دين المسلمين لا مذاهب فيه وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله ونبي المسلمين والخلفاء الراشدون جميعهم صحابة رسول الله وهم ايضا اقربائه واقرباء بعضهم البعض. والمذاهب صنع الناس الخطّائين الذين اوصلوا انفسهم واوصلونا الى هذه الحالة المذهبية الشنيعة.

الأم: نعود الى سيدنا عمر الذي وصل الى القدس على جمل كان يتناوب ركوبه مع غلامه، فلمَّا اقترب من المدينة كان دوره في المشي على الأرض ومرَّ على مخاضة، وعندما رآه والي الروم دهش من منظره. وعقبَ وصول عمر إلى المدينة تسلَّم مفاتيحها، ودخلها فاتحاً، فعقد مع أهلها الصلح وأعطاهم الأمان، وكان ذلك في سنة 15 هـ. ولمَّا دخل المسجد الأقصى قال "لبيك اللهمَّ لبيك، بما هو أحب إليك"، ثم ذهب إلى محراب داود وصلَّى فيه، ولم يلبث أن طلع الفجر، فأمر المؤذن بإقامة الصلاة ثم تقدَّم وأمَّ بالفاتحين.

الأب: ما إن انتهى دفن أبو بكر حتى وقف عمر يخطب في الناس ويدعوهم إلى الانضمام لجيوش المسلمين لقتال الفرس الذين طانوا يحشدون لقتال المسلمين في العراق. فأعلنَ النفير العام، وأرسل من يدعو إلى القتال إلى كل أنحاء الجزيرة العربية. مشى عمر مع الحملة وودَّع الجنود وخطب فيهم، ثم أوصى قائدهم سعد بن وقاس بالتوقف في زرود ودعوة الناس للخروج معه. ثم أخذ عمر يوجه كل طاقته للحشد للحرب، فدار على قبائل العرب ويدعوها للقتال ويجمع الناس ويرسل الإمدادات تباعاً إلى سعد. وبعد أن التقت وتجمَّعت كل الجيوش والإمدادات، بلغ قوام الجيش الإسلامي المتجه إلى فارس 32,000 مقاتل، مقابل 120,000 مقاتل فارسي ومعهم 70 فيلاً. ثم اندلعت المعركة الفاصلة في فتوحات فارس، المسمَّاة بمعركة القادسية. استمرَّ القتال أربعة أيام على أشده، فلما جاء اليوم الرابع قتل رستم وهزم الفرس وكانت تلك نهاية المعركة.

الأم: بعد القادسية، جاءهم الأمر من عمر بالتوجه إلى المدائن. فحاصر سعد المدائن مدة شهرين، حتى استسلمت فدخلها المسلمون، وهرب كسرى الفرس، ووجد المسلمون داخلها ثروات هائلة. ثم انتصروا على الفرس في معركة نهاوند التي اطلقوا عليها اسم فتح القتوح. ووصلت أخبار الفتح الى عمر فسرَّ سروراً عظيماً، غير أنه بكى عندما سمع بمقتل النعمان وصحابة آخرين خلال المعركة. بعد نهاوند توالت فتوحات بلاد فارس، ففتحت همذان فأصبهان فالري فجرجان فطبرستان فأذربيجان فخراسان فكرمان فمكران فسجستان. وبذلك كانت نهاية الدولة الساسانية وزوالها، وفتح المسلمين لجميع مناطقها السابقة.

الأب: كانت سنة 639م الموافقة لعام 18 هـ، سيئة على الدولة الإسلامية التي تعرضت لنكبتين: المجاعة في المدينة المنورة والطاعون في بلاد الشام. وعمّ الجدب أرض الحجاز واسودت الأرض من قلّة المطر فمال لونها إلى الرمادي مدة تسعة أشهر فسميت "عام الرمادة". والتجأ المسلمون إلى المدينة المنورة، فأخذ عمر بن الخطاب يُخفف عنهم، وكتب إلى أبي موسى الأشعري بالبصرة فبعث إليه قافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمات، ثم قدِم أبو عبيدة بن الجراح من الشام ومعه أربعة آلاف راحلة تحمل طعامًا فوزعها على الأحياء حول المدينة المنورة. فخفف ذلك من الضائقة بعد أن هلك كثير من المسلمين.

الأم: أما الطاعون فبدأ في عمواس، وهي قرب بيت المقدس، فسُمي "طاعون عمواس"، ثم انتشر في بلاد الشام. وكان عمر بن الخطاب يهم بدخول الشام وقتها، فنصحه عبد الرحمن بن عوف بالحديث النبوي: «إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فرارًا منه»، فعاد عمر وصحبه إلى المدينة المنورة. حاول عمر بن الخطاب إخراج أبا عبيدة بن الجراح من الشام حتى لا يُصاب بالطاعون فطلبه إليه، لكن أبا عُبيدة أدرك مراده واعتذر عن الحضور حتى يبقى مع جنده، فبكى عمر. ويبدو أن الطاعون انتشر بصورة مريعة، عقب المعارك التي حدثت في بلاد الشام، فرغم أن المسلمين كانوا يدفنون قتلاهم، فإن عشرات آلاف القتلى من البيزنطيين بقيت جثثهم في ميادين القتال من غير أن تُدفن، حيث لم تجد جيوشهم المنهزمة دائمًا الوقت الكافي لدفن القتلى. استمر هذا الطاعون شهرًا، مما أدى إلى وفاة الكثير من المسلمين بينهم جماعة من كبار الصحابة أبرزهم: أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل ومعه ابنه عبد الرحمن، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، والفضل بن العباس بن عبد المطلب، وأبو جندل بن سهيل. وقيل أن الطاعون أصاب البصرة أيضًا فمات بشر كثير.

الأب: وبعد انحسار طاعون عمواس، خرج عمر بن الخطاب من المدينة المنورة متجهًا نحو بلاد الشام عن طريق أيلة. فلمّا وصلها قسّم الأرزاق وسمّى الشواتي والصوائف وسدّ فروج الشام وثغورها، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل ومعاوية بن أبي سفيان على جند دمشق وخراجها. ثم قسم مواريث الذين ماتوا، بعد أن حار أمراء الجند فيما لديهم من المواريث بسبب كثرة الموتى. وطابت قلوب المسلمين بقدومه بعد أن كان العدو قد طمع فيهم أثناء الطاعون. وسمح عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص بالتوجه إلى مصر بعد انتهائه من فتح الشام، فدخلها وبنى مدينة الفسطاط. ثم سار عمرو إلى الإسكندرية، وبفتح الإسكندرية تمَّ فتح مصر، ووليّ عليها عمرو ثم عبد الله بن سعد بن أبي السرح من بعده.

الأم: بعد أن أتمَّ عمرو بن العاص فتح الإسكندرية سار إلى إقليم برقة، الواقع اليوم شرق ليبيا. ففتحها بسهولة وسرعة، وصالح أهلها على جزية يدفعونها له. ثمَّ فرَّق عمرو قواته وأرسلهم إلى مختلفة أجزاء برقة ومحيطها، فضم مصراتة وزويلة ودان، ثم سار عمرو إلى طرابلس الغرب وحاصرها لمدة شهر، غير أنه لم يتمكن من فتحها، حتى تمكن بعض جنوده من اقتحام المدينة، ففرَّ الروم إلى سفنهم للهرب، ودخل جيشه المدينة وفتحها. وبعد طرابلس سار عمرو إلى سبرة، ففتحها هي الأخرى، وتم بذلك فتح ليبيا. غير أن عمر لم يأذن له بالسير أكثر حتى إفريقية، فعاد عمرو إلى مصر.

الأب: اتسعت حدود الدولة الإسلامية خلال عهده اتساعًا عظيمًا مما جعله يُقدم على إنشاء تنظيم إداري فعّال لابقائها متماسكة وموحدة. وقد استتبع هذا الأمر تنظيم وإنشاء عدّة مرافق مهمة لم تعرفها العرب من قبل. ومن مآثر عمر بن الخطاب الأخرى توسيعه وترميمه للمسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي في المدينة المنورة، لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج بعد أن اعتنق الكثير من رعايا الشام والعراق ومصر وغيرها الإسلام.

الأم: اتسعت أقاليم الدولة الإسلامية الأولى، نتيجة انتشار المسلمين في الأقاليم المتاخمة لشبه الجزيرة العربية، لذلك عمد عمر بن الخطاب إلى تقسيم الأمصار المفتوحة إلى خمس مناطق كبيرة تنقسم بدورها إلى ولايات، وهي: العراق (الأحواز، الكوفة، البصرة)، فارس (سجستان ومكران وكرمان، طبرستان، خراسان)، الشام (قسم قاعدته حمص، وقسم قاعدته دمشق)، فلسطين (قسم قاعدته أيلة وقسم قادته الرملة)، أفريقية (صعيد مصر، مصر السفلى، غرب مصر، وصحراء ليبيا). أما في شبه الجزيرة العربية فأبقى على تقسيمها كما فعل أبو بكر الصديق، واستمرت تضم اثنتي عشر ولاية، هي: مكة المكرمة، المدينة المنورة، الطائف، صنعاء، حضرموت، خولان، زبيد، مرقع، الجند، نجران، جرش، والبحرين. كما قسّم الخليفة ولايات الشام إلى مقاطعات عدة دُعي كل منها جُندًا، وهي: جند قنسرين، جند دمشق، جند حمص، جند الأردن، وجند فلسطين. وكان عمر يختار لكلِّ إقليم واليًا، وكان يختارهم ممن يَتَوَسَّم فيهم الصلاح والمقْدرة على إدارة شؤون الولاية، والقِيام بالمهام المُلْقاة على عواتقِهم. كذلك كان لعمر مُفوَّضون رسميُّون يسافِرُون إلى الأمصار، ويراجعون أعمال الوُلاة، وكان على رأس أولئك المفتِّشين محمد بن مسلمة، وهو رجلٌ حازم فائق الأمانة.

الأب: وحرصًا منه على استقرار الوُلاة، وعدم انشغالهم بأمْرٍ غير الولاية؛ فقد أجْرى عليهم مرتباتٍ من شأنِها أن تعينَهم على التفرُّغ لعَمَلِهم المنوط بهم، ومثال ذلك: أنه أجْرى على عمار - والي الكوفة - ستمائة درهم، له ولكاتبه ومؤذِّنيه كلَّ شهر، وأجْرى على عثمان بن حنيف رُبع شاة وخمسة دراهم كل يوم، مع عطائه - وكان خمسةَ آلاف درهم - وأجْرى على عبد الله بن مسعود مائة درهم في كل شهر وربع شاة كل يوم. وقد اتبع عمر نظام المركزية الإدارية في حكمه للدولة الإسلامية، أي أن حكومته المركزية القائمة في المدينة المنورة كانت تقوم وحدها بالوظيفة الإدارية، دون مشاطرة الهيئات الأخرى لها في ذلك. ففرض أسلوبَ المركزية في الحكم؛ الذي يكاد لا يوجد له مثيل في التاريخ. وأن هيمنته في العاصمة لم تتوقف على الأمور العسكرية فحسب؛ بل امتدَّت إلى الشؤون المدنيَّة، ومن ذلك استئذان المسلمين الخليفةَ في طريقة بناء المساكن في المدن الجديدة، وحرص الخليفة على أن يُحاط علمًا بأقاليم الدولة التي لم يذهب إليها.

الأم: نشأت الدواوين في عهد عمر بن الخطاب نتيجة لاتساع الدولة الإسلامية، واتصال المسلمين الفاتحين عن قرب بالأنظمة الفارسية والبيزنطية في الأقاليم والتعرف على حضارتها، فانتقوا من بين ذلك ما وجدوه ملائمًا للاقتباس، كما أبقوا على الكثير من الأنظمة الإدارية التي ثبت لهم صلاحيتها لتلك البلاد. ومن الدواوين التي أوجدها عمر: ديوان الإنشاء، وهو ديوان الرسائل، ليكون بذلك أوّل من وضع هذا الديوان في الإسلام. ثم أنشأ ديوان العطاء وديوان الجند الذي سجَّل فيه أسماء المقاتلين، ووجهتهم، ومقدار أعطياتهم وأرزاقهم، وديوان الجباية الهادف إلى إحصاء خراج البلاد المفتوحة، وتنظيم الإنفاق في الوجوه التي يجب الإنفاق فيها.

الأب: أبقى عمر على النقود الذهبية والفضية التي كانت متداولة وعليها نقوش مسيحية أو فارسية، لكنه أضاف إلى هذه النقود البيزنطية والفارسية كلمة "جائز" ليميزها عن النقود الزائفة. ومع ذلك يعتبر عمر أول من ضرب النقود في الإسلام سنة 639م، الموافقة لسنة 18 هـ، معتمدًا النقش الفارسي وأضاف إليها "الحمد لله" وفي بعضها "لا إله إلا الله" .

الأم: أما البريد فكان موجودًا منذ تأسيس الدولة في المدينة المنورة، حيث كان النبي محمد يبعث الرسل إلى الملوك والأمراء ومعهم الكتب ممهورة بخاتمه. وقد رتّب عمر البريد بعد أن اتسعت هذه الدولة ليسهل عملية الاتصال بين المدينة المنورة والعمال وقادة الجيش في العراق وفارس والشام ومصر، فكتب إلى معاوية بن أبي سفيان في الشام يحثه على استعمال النار في الإشارات لنقل الرسائل والأخبار وإقامة الحرس على مناظرها واتخاذ المواقد لها. وقسّم الطرق إلى محطات بريدية بين الواحدة والأخرى مسافة اثني عشر ميلاً، وفي كل منها الحرس والزاد والماء. ثم كرس نظام الشورى، وفي ذلك يقول: "لا خير في أمر أُبرم من غير شورى". واتبع القرآن والسنة النبوية في ذلك، فأبقى إلى جانبه كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار يستشيرهم في كل مسألة لا يوجد فيها نص أو حديث.

الأب: أدرك عمر بن الخطاب أهمية الجيش في نشر الإسلام، لذلك أوجد فرقًا نظامية تُقدّر كل منها بأربعة آلاف فارس لترابط في كل مصر من الأمصار. وهذا يعني تأسيس جيش نظامي ثابت يُقدّر بإثني وثلاثين ألف فارس عدا المشاة والمتطوعين، مما يكفل حماية الدولة، ونظّم الرتب والرواتب في الجيش. وعرف الجيش الإسلامي خلال هذا العهد استخدام أسلحة الحصار التي اقتبست عن الروم، ومنها المنجنيق وأبراج الحصار والدبابة وأكباش الدك. وأصدر عمر أيضًا أمرًا بوجوب تعلّم الجنود ركوب الخيل والرماية والمشي حفاة والسباحة، وأنشأ مراكزًا عسكرية في المدينة والكوفة والبصرة والموصل والفسطاط ودمشق والأردن وفلسطين، بُنيت فيها ثكنات مخصصة لإقامة العساكر، كما شُيدت اصطبلات كبيرة مخصصة لدعم الجند عند الحاجة بما يكفيها من الخيول. وبالإضافة إلى المراكز العسكرية، أنشأ الخليفة معسكرات في المدن الكبيرة والأماكن ذات الأهمية الاستراتيجية.

الأم: يعتبر عمر بن الخطاب أول من أنشأ السجون بعد أن كان المتهمون بالجرائم يُعزلون في المسجد. كما كان أول من أدخل نظام العسس للتجول والمراقبة ليلاً من أجل مساعدة القاضي في إثبات التهم وتنفيذ الأحكام ضد المذنبين، ويُعتبر هذا النظام بمثابة النواة التي قامت عليها فيما بعد "الشرطة"، ويتولاها صاحب الشرطة. وأول من أسندت إليه هذه المهمة هو عبد الله بن مسعود، فهو أول عسّاس في الإسلام، و"العسس" اسم مشتق كما تورده بعض المصادر من "عسَّ يَعُسُّ عَسَساً وعَسّاً أَي طاف بالليل".

الأب: كان عمر يتولَّى الفصل بين الناس، وتطبيق الحدود والأحكام، ولمّا توسَّعَتِ الدولة واختلط العربُ بسكان البلاد المفتوحة، وازدادَتِ القضايا في هذه الأمصار، تعذَّر عليه وعلى الولاة ايضا النظر فيها كلها. فعمل عمر على فصل القضاء عن الولاية، وشرع في تعيين القضاة في البلاد المفتوحة، وأجرى عليهم الرواتب. وكان عمر يحث القضاة على إحقاق الحق، وإقامة العدل بين الناس؛ مما دفعهم إلى العمل على تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية بحذافيرها. كما سن عمر لهؤلاء القضاة دستوراً يسيرون على هديه في الأحكام، وقد لبث هذا الدستور مرجعاً للقضاء.

الأم: أما وزارة الشريعة او كما يطلق عليها "الحِسبة" فقد أنشأها ووضع أُسسَها واختصاصاتِها، وكان يقوم بها بنفسه، ثم أوكلها الى "المحتسب". والحسبة هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يُعَيِّنُ لذلك مَنْ يراه أهلاً له. وكانت مهمة المحتسب تتمثل في: مراعاة أحكام الشَّرع، وإقامة الشعائر الدينية، والمحافظة عليها، والنظر في أرباب البهائم، ومراقبة مَن يتصدَّر لتفسير القرآن الكريم، والنظر في الآداب العامة، وفي البيوع الفاسدة في السوق، والموازين والمكاييل. وبهذا فقد تعدت الحسبة معناها وهدفها الديني إلى واجبات عملية مادِّيَّة تتَّفق مع المصالح العامَّة للمسلمين.

الأب: كان النبي محمد قد أمر بالتأريخ بعد قدومه إلى يثرب. وقد حدث هذا التأريخ منذ العام الأول للهجرة، وعلى هذا الأساس كان النبي يُرسل الكتب الممهورة بخاتمه إلى الملوك والأمراء ورؤساء القبائل المختلفة. وما فعله عمر ان منع الخلاف حول التأريخ. فجمع الناس، وقال لهم: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل"، فأرّخوا بها وابدأوا بمحرّم فإنه منصرف الناس من حجهم "، وذلك سنة سبع عشرة، فاتفقوا عليه.

الأم: كان عدد من الفرس الذين بقوا على المجوسية يضمرون الحقد والكراهية لعمر. ويتفق المؤرخون أنه بعد عودة عمر إلى المدينة المنورة طعنه أبو لؤلؤة فيروز الفارسي بخنجر ذات نصلين ست طعنات، وهو يُصلي الفجر بالناس، وكان ذلك يوم الأربعاء 26 ذي الحجة سنة 23 هـ، الموافقة لسنة 644 م، ثم حُمل إلى منزله والدم يسيل من جرحه وذلك قبل طلوع الشمس. وحاول المسلمون القبض على القاتل فطعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم ستة، فلما رأى عبد الرحمن بن عوف ذلك ألقى رداءًا كان معه على أبي لؤلؤة فتعثر مكانه وشعر أنه مأخوذ لا محالة فطعن نفسه منتحرًا. ودُفن أبو لؤلؤة فيروز الفارسي، ودُفنت معه أخبار المؤامرة والدوافع إليها.


الأب: مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد ثلاثة أيام من طعنه، بالحجرة النبوية إلى جانب أبي بكر الصديق والنبي محمد، وكان عمره خمسًا وستين سنة. وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وقد استطاع في هذه الفترة القصيرة أن يُرسي قواعد الدولة الإسلامية الأولى التي أنشأها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

الأم: اجتمع أهل الشورى للاتفاق على من يخلف عمر، فانحصر الأمر بين ثلاثة بعد أن فوّض الزبير ما يستحقه إلى علي، وفوّض سعد ما له إلى عبد الرحمن، وترك طلحة حقه إلى عثمان. ثم انسحب عبد الرحمن بن عوف فبقي الامر بين اثنين: علي وعثمان. ثم اجتمع المسلمون بعد مشاورات حثيثة في المسجد، ووقف عبد الرحمن بن عوف تحت المنبر وبايع عثمان بن عفان ثم بايعه علي بن أبي طالب والمسلمون في 3 محرم سنة 24 هـ.

الأبن: لماذا اقال سيدنا عمر خالد بن الوليد من قيادة الجيوش وولاها لابي عبيدة؟

الأم:  كان سيدنا عمر يخشى انتشار كبار الصحابة في المناطق التي انتشر فيها الإسلام حيث إغراء الدنيا بامتلاك الضياع وافتتان المسلمين بهم مما يوفر لكل منهم الأرض والمال والأتباع فيكون لنفسه دولة داخل الدولة، فتضيع بذلك الخلافة وينقسم المسلمون. لذلك كان يقول لهم: "إني أخاف أن تروا الدنيا وأن يراكم أبناؤها". وكان هذا هو السبب وراء عزل عمر لخالد بن الوليد بعد أن فُتن الناس به وتحدثوا عن انتصاراته في الشام والعراق، فتغنّى الشعراء بفعاله، فوهبهم خالد من ماله وأغدق عليهم، ولمّا بلغه أن الخليفة عزله، فاتجه خالد للمدينة المنورة للقاء عمر، محتجًا على ما اعتبره ظلمًا، إلا أن عمر أصر على قراره، ونُقل عنه أنه قال: «إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويُبتلوا به. فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة.»

الأب: اشتهر عمر بن الخطاب بقوته البدنية الهائلة، فكان إذا ضرب أوجع، يُصارع الفتيان في سوق عكاظ فيصرعهم، وقد طغت عليه هذه السمعة أكثر مما طغت عليه سمعته كمبارز بالسيف، لكن أكثر ما اشتهر به في كتب التاريخ كان استراتيجياته العسكرية الباهرة، التي وضعته ضمن قائمة أبرز العسكريين في التاريخ. ولعب عمر وخالد بن الوليد دورا أساسيا في رسم الاستراتيجية العسكرية لجيوش المسلمين خلال حروب الردة، لكن عبقرية الأول العسكرية لم تتجلى إلا عام 636م عندما تمكن من تفكيك الحلف الفارسي البيزنطي، بعد أن أبرم الإمبراطور هرقل والشاه يزدجرد الثالث اتفاقًا تعاهدا خلاله على السير معًا ومواجهة المسلمين عدوهم المشترك. وقد استغل عمر بن الخطاب عدم مقدرة الشاه الفارسي على الوصول بجيوشه في فترة متزامنة مع وصول جيش الروم، فهاجمهم ودفعهم إلى القتال وهم ما زالوا غير مستعدين. وقد أثبتت هذه الخطة مدى كفائتها عندما أنزل جنود الشام المخضرمين هزيمة قاسية بالفرس في معركة القادسية الحاسمة.

الأم: كان عمر بن الخطاب رجلاً متواضعًا يعيش، كما أبا بكر قبله، وعثمان وعلي بعده، حياةً بعيدة عن الأبّهة والترف، وكان يصرف على نفسه بما يربحه من التجارة، ولم يتخذ لنفسه قصرًا أو ملبسًا فاخرًا، ولم يعش حياة الملوك. ومن أبرز القصص التي يُستدل بها على ذلك، الرواية الشهيرة التي تقول أن رسولاً من الفرس اتجه إلى المدينة المنورة ليرى كيف يعيش ملكها وكيف يتعامل مع شعبه، ولمّا وصل واستدل على بيت الخليفة، وجده مبنيًا من طين وعليه شعر ماعز وضعه عمر لكي لا يسقط المطر فينهدم البيت على رأسه وأولاده، ولمّا سأل عن الخليفة، أشار الناس إلى رجل نائم تحت ظل شجرة، وفي ثوبه عدد من الرقع، وبدون أي حراسة، فتعجب من هذا المنظر ولم تصدق ما رأته عيناه وتذكر كسرى فارس وقصوره وحرسه وخدمه فقال قولته المشهورة: «حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر».

الأب: كذلك يعتبر عمر بن الخطاب أحد أكثر الرجال عدلاً في التاريخ، وكان أكثر الرجال بعدًا للنظر، وكان محبوبا من النصارى بشكل خاص لانه حرص على عدم المس بهم وبديانتهم بل حماها واعلى من شانهم. ومن المعروف أن الكنائس المسيحية عامة، لا تقدم رأيًا في الشخصيات غير الدينية، فموقفها ونظرتها محصورة في أنبياء ومؤسسي الديانات الأخرى، أما أتباعهم وصحابتهم فلا تبدي رأيها بهم غالبًا. غير أن احتكاك المسلمين بالمسيحيين في الشام والعراق ومصر خلال عهد عمر بن الخطاب، ولجوء بعض رجال الدين النصارى إليه شخصيًا ليرفع ظلم الروم عن رعاياهم، جعل بعض المؤرخين المسيحيين يذكرون عمر بن الخطاب بالخير ويحيطونه بالاحترام والتبجيل. وكان لمنح عمر سكان إيلياء "القدس" عهدًا بحماية أماكن عبادتهم وبتوفير الأمان لهم ولأموالهم وبحرية ممارسة شعائرهم الدينية، مقابل دفع الجزية سنويًا لبيت المال، أثر في حصوله على احترام وحب المسيحيين الذين عاصروه، والعديد من الذين تابعوا سيرته في الأجيال اللاحقة.

الأم: إن تاريخ عمر بالكامل يظهر أنه كان ذو عقليّة فذّة، ونزاهة ثابتة صلبة، وعدالة صارمة، وكان المؤسس للإمبراطورية الإسلامية، مؤكدا ومنفّذا للوحي النبوي، مساعدا ومشاورا لأبي بكر خلال فترة خلافته القصيرة، وواضعا ومؤسسا للأنظمة واللوائح التي تنظم إدارة القانون عبر حدود وأنحاء الفتوحات الإسلامية الممتدة بسرعة، وقد كانت سياسة اليد الصارمة التي تعامل بها مع قادة جيوشه الأكثر شعبية في خضم جيوشهم وفي أبعد مشاهد إنتصاراتهم، أعطت دليلا بارزا على قدرته الاستثنائية على الحكم.
    
الأب: هذا ما وفقّنا الله الى ذكره عن سيرة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وارضاه. والى الغد انشاء الله مع سيدنا عثمان بن عفان.


سامي الشرقاوي

ليست هناك تعليقات: