رمضانيات
الحلقة 24
عام الفيل ومولد الرسول صلى الله عليه وسلم
حلقات يكتبها سامي الشرقاوي
اجتماع عائلي حول مائدة رمضان
الجميع بانتظار آذان المغرب يرفع لوقت الصلاة والافطار
يتسامر الصائمون حول الطاولة فيبدأ كبير العائلة كلامه
عام الفيل ومولد الرسول صلى الله عليه وسلم
الأب: هذه الليلة ستكون تمهيدا لليلة غد حيث سنناقش سيرة حبيب الله ورسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد ارتأينا الوالدة وأنا ان نروي هذه الليلة الاحداث التي جرت في العام الذي ولد فيه رسول الله والذي سمّي بعام الفيل وذلك نسبة الى الحدث التاريخي الشهير بين الملك الحبشي ابرهة الذي جاء لهدم الكعبة ليبني كعبة في بلاده ويستقطب الناس ليحجوا اليها.
الابن: نحن نعرف يا أبي ان ابرهة الحبشي اتى بجيش عظيم تتقدّمه افيال عظيمة لم يكن العرب يألفون مشاهدتها لانها لم تكن منتشرة في شبه الجزيرة العربية.
الأم: صحيح. لهذا فزع الناس من مشاهدتها وخافوا ان تبطش بهم. ولكن لم يتوقع احد ان كل هذا كان بتدبير من المولى عز وجل. ليهلك جيش الحبشة والافيال بقدرته تعالى، ويظهر للناس ان للكعبة رب يحميها كما قال لهم عبد المطلب كما سيظهر لاحقا. وكأن الله جلّ جلاله انطق عبد المطلب ليثبّت مقامه لدى قريش ويهيئه لاستقبال خاتم الانبياء الذي سيولد من ظهر ابنه عبد الله وينشأ تحت رعاية جده.
الابنة: لذلك فتلك الحادثة في ذلك اليوم في ذلك العام هي بداية اعلان الكعبة بيت الله الذي لا يقدر احد على هز قيمته القدسية وانه بيت التوحيد والايمان الذي ينتظر رسول الله ليعلنه محجاً وقبلةً للمسلمين بامر الله رب العالمين.
الأب: كان هذا الحدث غريبا من كل جوانبه. قدوم ابرهة الحبشي على رأس جيش تتقدمه الفيلة كان غريبا ليهدمها ويبني مكانها جعبة اخرى في الحبشة كان غريبا. طمع ابرهة بإبل عبد المطلب كان غريبا. قبول ابرهة برد الابل لعبد المطلب كان غريبا. مقتل ابرهة وابادة جيشه وفيله بالطريقة التي قضوا فيها كان من اغرب الامور.
الأم: طبعا كل ذلك كان غريبا الا على رب العالمين الذي هو دبر الاحداث وهو الذي نهاها. وهو جل جلاله يريد ان يظهر للناس ان للكعبة المشرفة بيت الله الذي بناه سيدنا ابراهيم مع ابنه اسماعيل عليهما السلام ستكون كما سأل ابراهيم ربه ان تكون. بيتا لله يأتيه الناس من كل فجٍّ عميق.
الأبن: ولكن ما هو السبب المباشر الذي جعل ابرهة يجن بهذا الشكل؟
الأب: يقال بنى أبرهة كنيسةً ضخمة، وقرّر أن يدعو أهل الجزيرة العربيّة لأن يحجّوا إليها بدل الكعبة، وينقل الكعبة إلى أرض اليمن، وأرسل أبرهة الرّسل والدّعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز يدعونهم إلى الحجّ إلى كنيسة اليمن، فأحسّ العرب بالخطر إذّاك، ولم يستجيبوا لطلبه، وكان في الجيش بعض الفيلة اتى بهم ليستعملهم في المعارك وفي هدم الكعبة. وواصل سيره حتى بات على مقربة من مكة، وتهيأ لدخولها، لكن فيله برك ورفض السير. كان يقبل ان يسير بأي اتجاه الا اتجاه الكعبة.
الأم: ولما سمعت العرب بذلك ورأت هذا الجيش الجرار الذي يتقدمه فيلة، هابوا لقاءه، وفشلوا في صده، وبات الطريق أمامه مفتوحا إلى مكة المكرمة. وما إن وصل إلى مشارفها، حتى بعث من أتى له بأموال وبعير أهل قريش، وكان منها مئتا بعير لعبد المطلب بن هاشم، جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان إذ ذاك سيد قريش وزعيمها.
الأب: وبعث أبرهة رسولا إلى عبد المطلب، ليخبره أنه لم يأت لحرب قريش، إنما جاء لهدم الكعبة فإن أراد عبد المطلب الحرب فالويل له. كان رد عبد المطلب أن قريشا لا تريد الحرب، وأنها لا طاقة لها على القتال، وهذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم. ثم انطلق عبد المطلب إلى أبرهة حيث استقبله استقبالا حافلا وأجلسه إلى جانبه ثم سأله أن يطلب ما يشاء. فقال عبد المطلب حاجتي أيها الملك، أن ترد علي البعير التي أخذتها. فقال أبرهة متعجبا: والله إنك قد أعجبتني حين رأيتك، فلما كلمتني بشأن البعير، انتقصت من قدرك، أتكلمني بمئتي بعير، وتترك البيت الذي هو دين آبائك وأجدادك ؟ فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وأنا أحميها، أما البيت فله رب يحميه وسيمنعك عنه.
الأم: ثم عاد عبد المطلب إلى قومه ، وأمرهم بالخروج إلى شعاب مكة وجبالها وفي الصباح توجه أبرهة إلى مكة، يريد هدم البيت، لكن الفيل الذي كان يتقدم الجيش، أحجم عن التقدم رغم ضربه ونهره، فإن وجّهوه نحو اليمينن هرول، وإن وجّهوه نحو الكعبة أحجم وتراجع، عندئذ لقي ابرهة وجيشه جزاءهم العادل، عندما أرسل الله عزّ وجلّ طيورا، تحمل في أرجلها حجارة صغيرة، لا تصيب أحدا منهم إلا هلك فولّى الجيش هاربا، لا يلوى على شيء، أما أبرهة فقد أصيب بالحجارة، وما إن وصل إلى اليمن حتى مات، وقد ذكر الله عز وجل هذه الحادثة في القرآن الكريم إذ قال (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول)
الابن: وما هي الطير الابابيل يا أبي؟
الأب: هي طيور الهية جاءت بأمر ربها على دفعات متتابعة تشن غارات متتاليه على ابرهة وجيشه.
الابنة: وما هي الحجارة من سجيل؟
الأب: هي حجارة من نار أي قذائف نارية تماما مثل قنابل الطائرات الحربية، اذا أصابت تحرق وتدمر.
الابنة: وكيف جعلهم كالعصف المأكول؟
الأب: العصف المأكول هو العشب الجاف المحترق.
الأم: المهم ان قريش كانوا قد استبدلوا الدين الحنيف، بعبادة هذه الأوثان، وصاروا أشبه بالأمم السابقة. وكانوا إذا طافوا حول الكعبة، وحدّوا الله بالتلبية ثم أدخلوا معه أصنامهم، يقول الله عز وجل واصفا حالهم (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). وكانوا قد استوردوا صنما يدعوه هبل يصلّون له ويستنصرون به. ومن بين الأصنام التي عبدوها ايضا العزّى، وكانت أعظمها عندهم. أمّا الّلات فكانت لثقيف بالطائف وهي عبارة عن صخرة مربّعة. وكانت مناة للأوس والخزرج. وغيرها من الأصنام التي صنعوها بأيديهم، ثم عبدوها، واعتقدوا أنها تجلب الخير وتمنع الشر.
الأب: وكان القريشيون يولون البيت العتيق اهتماما كبيرا، وكانت الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء لقصي بن كلاب، فحاز شرف مكة التي قطّعها أرباعا بين قومه فأنزل كل قوم من قريش، منازلهم من مكة. ولما مات، اتفقوا على أن يوكلوا بني عبد مناف بالسقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار. ثم انتقلت إلى هاشم بن عبد مناف، الذي يعتبر أول من سن الرحلتين لقريش رحلتي الشتاء والصيف، وأول من أطعم الثريد بمكة، وعندما مات هاشم بن عبد مناف، تولى السقاية والرفادة، المطلب بن عبد مناف، الذي كان ذا شرف في قومه وفضل، وكان هاشم بن عبد مناف، قد ولد له ولدا سمّاه شبية، وهو الذي أطلق عليه فيما بعد اسم عبد المطلب.
الأم: قال على بن أبي طالب كرم الله وجهه، يحدّث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها "قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة قلت: وما الطيبة ؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال احفر برّة قلت وما برّة ؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر المضنونة قلت وما المضنونة ؟ قال ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم". وكانت زمزم قد طمرها الجراهمة قبل ان يخرجوا منها.
الأب: ثم مضى عبد المطلب مع ابنه الحارث، إلى المكان الذي عيّن له حاملا معوله، فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الماء، كبّر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها فقال ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصّصت به دونكم، وبقي أمر السقاية بيد عبد المطلب، جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الأم: لم يكن لعبد المطلب يومئذ من ولد يعينه على تحقيق مراده إلا ابنه الحارث فنذر لله تعالى إن رزقه عشرة من الولد يحمونه ويعينونه ذبح أحدهم، ولما رزقه الله عشرة من الولد وأراد أن يفي بنذره كانت القرعة على عبد الله اصغر اولاده واحبهم الى قلبه. فهمَّ أن يذبحه عند الكعبة فمنعته قريش، وطلبوا إليه أن يرجع في أمره إلى عرّافة بالمدينة تفتيه في أمر ذبح ولده. فأرشدته إلى أن يضع عشراً من الإبل وهي دية الفرد عندهم، وأن يضرب بالقداح على عبد الله وعلى الإبل، فإن خرجت على عبد الله الذبيح زاد عشراً من الإبل، وإن خرجت على الإبل فانحرها عنه فقد رضيها ربكم، ونجا صاحبكم. وما زالت القداح تخرج على عبد الله حتى بلغت الفدية مائة ناقة فخرجت عليها فأوفى عبد المطلب نذره ونحرها فداء لابنه. ونجَّى الله تعالى عبد الله والد رسول الله. ولهذا كان سبب لقب عبد الله بالذبيح، وهو أحب أولاد عبد المطلب العشرة إليه، وزاده حباً فيه هذه الحادثة العجيبة.
الأب: كان عبد الله بن عبد المطلب فتى وسيما عشقته معظم بنات قريش ونسائها، وارادوا خطبته، ولكن عبد المطلب كان يريد تزويجه من فتاة ذات نسب وعفّة. وخرج به يوما يريد تزويجة فمرّ على إمرأة من بنى أسد وهى عند الكعبة فقالت له حين نظرت الى نور فى وجهه، لك مثل الإبل التى نحرت عنك إذاعقدت عليّ الآن. فأبى عبد المطلب وتابع سيره حتى أتى وهب بن عبد مناف سيد بنى زهرة سِنّاً وشرفا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب. وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا.
فهي من أسرة آل زهرة ذات الشأن العظيم. أبوها وهب بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، سيد بني زهرة شرفا وحسبا. وأمها برّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب. فتجمّع في نسب آمنة عز بني عبد مناف حسب وأصالة. ويؤكد هذه العراقة والأصالة بالنسب اعتزاز الرسول صلى الله عليه وسلم بنسبه حيث قال : "لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما، ويقول أيضا، "أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا".
الأم: كانت آمنة محشومة ومخبأة من عيون البشر، وكان فتيان أهل مكة يتسارعون إلى باب بني زهرة من أجل طلب الزواج منها وهي تحجم وتطلب من ابيها ردّهم. فلمّا جاء وهب ليخبر ابنته عن طلب عبد المطلب بتزويجهاا بابنه عبد الله، قبلت وغمرها الفرح والسرور. وقيل بأن الفتيات كن يعترضن طريق عبد الله لأنه اشتهر بالوسامة،، فكان أجمل الشباب وأكثرهم سحرا، حتى إنَّ أكثر من واحدة خطبته لنفسها مباشرة. وبعد أن تم الزواج حملت آمنة بعد أشهر من زواجها، بأشرف الخلق، وخير الناس، وكانت تقول للناس انها حلمت بأحدٍ جاء يخبرها انها قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا ولد فقولي أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا. ولم يكن هذا الاسم معروفا في الجاهلية، إلا أن ثلاثة من الرجال، عزموا على تسمية أولادهم بهذا الاسم المبارك، عندما سمعوا بقرب ولادة الرسول المنتظر، طمعا بأن يكون أحدهم النبي المبعوث.
الأب: بعد زواج عبد الله من آمنة أعرض عنه كثير من النساء اللواتي كنَّ يخطبنه علانية، فسأل عبد الله واحدة منهن عن سبب إعراضها عنه فقالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة. أدهش هذا الكلام عبد الله وآمنة وراحا يفكران في القول الذي قالته تلك المرأة؟ خصوصا انها كانت أخت ورقة بن نوفل الذي بشّر بأنه سوف يكون في هذه الأمة نبي. وبقي عبد الله مع عروسه أياما، ثم لحق بقافلة تجارية مسافرة إلى غزة والشام ليسعى وراء رزقه. شعرت آمنة ببوادر الحمل، وكان شعورا خفيفا لطيفا ولم تشعر فيه بأية مشقة حتى وضعته. وفي تلك الأيام كانت تراودها شكوك في سبب تأخير عبد الله فكانت تواسي نفسها باختلاقها الحجج والأسباب لتأخيره. ثم أخبرها ابوها أن زوجها أصيب بوعكة بسيطة، وهو الآن عند أخواله بيثرب. وجاء الخبر المفزع من الحارث بن عبد المطلب ليخبر الجميع بأن عبد الله قد مات. أفزع هذا الخبر آمنة وشق قلبها جزنا عليه، فنهلت عيناها بالدموع وبكت بكاءً مراً على زوجها الغائب، وبكت كل مكة فتاها الطيب الكريم. ولم يمض وقت قليل حتى وضعت آمنة مولودها، أشرف الانام الذي قال فيه الله لآدم لولا محمّد ما خلقتك.
الأم: روي عن آمنة انها قالت لما وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته رافعًا رأسه إلى السماء مشيرًا بإصبعه، فاحتمله جبريل وطارت به الملائكة ولفّه ميكائيل في ثوب أبيض من الجنة وأعطاه إلى رضوان يزقّه كما يزقّ الطير فرخه، وكنت أنظر إليه كأنه يقول زدني فقال له رضوان يكفيك يا حبيب الله، فما بقي لنبي علم وحلم إلا أوتيته فاستمسِك بالعروة الوثقى، من قال مقالتك واتّبع شريعتك يحشر غدا في زمرتك. وإذ منادٍ ينادي: طوفوا به مشارق الأرض ومغاربَها واعرضوه على موالد الأنبياء لأي الأماكن التي ولد فيها النبيون، وأعطوه صفوة آدم ومعرفة شيث ورقة نوح وعلم ادريس وخلة إبراهيم ورضا إسحاق وفصاحة إسماعيل وحكمة لقمان وصبر أيوب ونغمة داود وقوة موسى وزهد عيسى وفهم سليمان وطب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى وقبول زكريا. واغمسوه في أخلاق النّبيين كلهم وأخفوه عن أعين العالمين فهو حبيب رب العالمين فطوبى لحِجر ضمّه وطوبى لثدي أرضعه وطوبى لبيوت سكنها فقالت الطير نحن نكفله وقالت الملائكة نحن أحقّ به وقالت الوحوش نحن نرضعه. وقال الله تعالى: أنا أولى بحبيبي ونبيّي محمد.
الجميع: لا اله الا الله... اللهم صلي وسلم على حبيبك محمد.
الأب: ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأثنين، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفي العام الذي غزا فيه أبرهة الأشرم مكة، يريد هدم بيتها المعظم، والذي سمي بعام الفيل، وكان أهل الكتاب من يهود ونصارى، يعلمون بقرب ولادة الرسول الذي بشر به. وكانت أمه عندما حملت به صلى الله عليه وآله وسلم قد رأت نورا خرج منها، رأت به قصور بصرى، من أرض الشام، فأرسلت إلى جده عبد المطلب وكان ابوه صلى الله عليه وآله وسلم، قد مات، وأم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حامل به، فلما حضر جده، قالت له آمنة إنه ولد لك غلام، فأته فانظر إليه، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت به أن تسميه. فرح عبد المطلب بحفيده، فقام فضمّه إلى صدره وسماه محمّدا، وأخذه فدخل به الكعبة، فقام يدعو الله، ويشكر له ما أعطاه، ثم طلب له المرضعات، كي يرضعنه، جريا على عادة اتبعها العرب في إرسال أولادهم إلى البادية، ليكتسبوا القوة والفصاحة والمنعة.
الأم: ولد من وصفه الله (وإنك لعلى خلق عظيم ) وسماه صراحة بالسراج المنير. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وداعِياً إلى اللهِ بإذنهِ وسِراجَاً مُنيرَاً). ويذكر القرآن سراجين، (سِرَاجاً وَهَّاجاً)، و(وَسِرَاجاً مُّنِيراً)، فالسراج الوهاج هو الشمس في ضحاها، والسراج المنير هو سيدنا محمد في جماله وبهائه وكماله. ولد الهدى، فأضاء الكون كله، ووقف له الملائكة يمدحونه بكل ثناء، ونزلوا بأمر ربهم اليه، ورفعوه معهم الى السماء، وطافوا به حول العرش ولمسه القلم واللوح وسدرة المنتهى العصماء. ولد الهدى، محمد عليه الصلاة والسلام، خير الانام، ولد من هو رحمة للعالمين، ولد صاحب الشفاعة، ولد السراج المنير، ولد الصادق الامين، ولد الذي هو على خلق عظيم.
الأب: ولد الهدى، ولد الحبيب، واضاء نوره شعلة ايمان لا ينطفيء، ولد صاحب النور الذي لا يخفت ولا يأفل، ولد أبو القاسم أحمد، بشارة عيسى المسيح، الذي يصلّي عليه الله والملائكة والمؤمنون الى يوم الدين.
الابنة: الله الله ما أجمل مديحكما لنبي الله، صلى الله عليه وسلم، والله ان ذكره يثلج قلبي، ويهديء روعي، ويطمئن قلبي، ويريح بالي ويجعلني تائهة في حبه، وغائبة في ملكوت الله الذي انزل عليه القرآن وجعله رحمة للعالمين.
الابن: والله ان ذكره الطاهر، ليؤنس قلبي، وينير دربي، ويقربني من ربي، ويفرج كربي، ويجعلني أخشع أكثر، وأؤمن أكثر، وأحبه أكثر، وأذكره أكثر، وأصلي عليه أكثر.
الجميع: اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد، وأعطه الوسيلة والفضيلة، وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته انك لا تخلف الميعاد.
الأب: بعد ان ولد صلى الله عليه وسلم، استرضع عبد المطلب له امرأة من بني سعد بن بكر، يقال لها حليمة ابنه أبي ذؤيب. تقول حليمة السعدية: خرجت من بلدي مع زوجي، وابن لي صغير، نلتمس الرضعاء، في سنة شهباء، لم تبق لنا شيئا، لا ننام ليلنا من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، وما في ثديي ما يشبعه، حتى وصلنا إلى مكة فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتأباه، إذا قيل لها إنه يتيم، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا إلا أنا فلما نوينا الانطلاق قلت لزوجي، والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي، ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه فقال زوجي لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة.
الأم: تقول حليمة: فلما أخذته، رجعت إلى رحلي، فلما وضعته في حجري، أقبل عليه ثديي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شاتنا، فحلب منها وشرب، وشربت معه حتى شبعنا، فبتنا بخير ليلة، إلى أن أصبحنا، فقال زوجي اعلمي يا حليمة لقد أخذتنا نسمة مباركة، ثم ركبت حماري، وحملت اليتيم معي، فأسرع الحمار حتى إنني سبقت صواحبي كلهن، إلى أن وصلنا إلى منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضاً من أراضي الله أجدب منها فكانت غنمي تذهب لترعى وتعود، وقد امتلأ ضرعها لبنا، فنحلب ونشرب، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم أسرحوا بأغنامكم، حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتعود أغنامهم جياعا لا تحلب قطرة لبن، وتعود أغنامي شباعا، تدر لبنا كثيرا.
الأب: ولم تزل البركة والخير، تحفان بحليمة وعائلتها حتى مضت سنتان، عندئذ فصلته، وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنيه، حتى كان غلاما جفرا، صلى الله عليه وآله وسلم وتقول حليمة السعدية: فعدت به إلى أمه صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أحرص شيء على بقائه فينا، لما كنا نرى من بركته، ولم أزل أكلم أمه في أن تبقيه عندي، حتى رضيت فرجعنا به، وبعد أشهر، أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه، فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما منتفعا وجهه، فأحطناه وقلنا له: مالك يا بني قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني وشقا بطني، فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو، فخشيت عليه فقدمت به على أمه فقالت: ما الذي جاء بك يا حليمة، وقد كنت حريصة عليه، وعلى بقائه عندك فقلت قد أديت واجبي، وتخوفت الأحداث، فأعدته إليك كما تحبين، فقالت آمنة: ما هذا شأنك، فاصدقيني خبرك، فأخبرتها، فقالت أفتخوفت عليه الشيطان؟ والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لابني لشأن، فقد رأيت حين حملت به، أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصري من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حملٍ قط كان أخف ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وهو واضع يديه بالأرض، رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك وانطلقي راشدة.
الأم: عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع أمه آمنة بنت وهب، وجده عبد المطلب بن هاشم، في حماية الله عز وجل وحفظه، ينبته الله نباتا حسانا، لما يريد به من كرامته، وبينما كانت آمنة راجعة به صلى الله عليه وآله وسلم من مكة، وقد كانت تزور أخواله من بني عدي بن الجار، جاءها ملك الموت فقبض روحها، في منطقة الأبواء، بين مكة والمدينة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن ست سنين. فانتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد وفاة أمه، إلى جده عبد المطلب، الذي رعاه خير رعاية، وحفظه خير حفظ، فكان يحبه حبا جما، حتى كان يفضله على بنيه، فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فيأتي أعمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيجلسون حول فراشه، فلا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يأتي وهو غلام جفر، يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخّروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه على الفراش، ويمسح ظهره بيده ولكن ما إن بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثماني سنوات حتى توفي جده عبد المطلب بن هاشم. وانتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى عمه أبي طالب، تنفيذا لوصية عبد المطلب، وذلك لأن عبد الله، والد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبي طالب أخوان لأب وأم، فأمهما فاطمة بنت عمرو وعاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عند عمه سعيدا فرحا كذلك كان عمه، سعيدا بصحبته، حتى إنه كان لا ينام إلا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إله وسلم إلى جانبه.
الأب: أراد أبو طالب ، أن يخرج إلى الشام في تجارة له، فلما استعد للرحيل، ونوى على المسير، مال إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلق بأثوابه، يريد الذهاب معه، فرق له أبو طالب وعطف عليه وقال والله لأخرجن به معي ولا يفارقني، ولا أفارقه أبدا وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع عمه أبي طالب، وهو في التاسعة من عمره فلما وصل المركب إلى مدينة بصرى من أرض الشام، نزلوا قرب راهب هناك يقيم في صومعته، يدعى بحيرى وكانوا كثيرا ما يمرون به، أثناء ذهابهم وأيابهم، لكنه في هذا العام احتفى بهم، واستقبلهم استقبالا حافلا. وقد كان لا يكلمهم ولا يعرض لهم، ثم صنع لهم طعاما كثيرا ونزل من صومعته وقال للقوم: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وإني أحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحرّكم، فقد أحببت اليوم أن أكرمكم، فأنتم ضيوفي فاجتمع القوم إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لصغر سنه.
الأم: وكان بحيرى الراهب قد رأي غمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا سار سارت معه، ورأى أغصان الشجرة التي أوى تحتها، قد مالت وتدلت، على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما نظر بحيرى في القوم، لم ير ذلك الفتى، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فطلب من القوم أن يحضروه، فلما حضر صلى الله عليه وآله وسلم، جعل بحيرى يتفحصه وينظر إلى أشياء من جسده، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى وقال له يا غلام أسألك بحق اللات والعزى، فقال صلى الله عليه وسلم لا تسأل بحقهم فوالله ما أبغضت شيئا قط كبغضي لهما. ثم جعل بحيرى يسأله عن أشياء من حاله ونومه وهيئته وأموره، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه ثم أقبل بحيرى على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك ؟ قال أبو طالب إنه ابني فقال له بحيرى ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا فقال أبو طالب: إنه ابن أخي، قال بحيرى: فما فعل أبوه ؟ قال أبو طالب: مات وأمه حبلى به فقال بحيرى: صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، لأضمروا له شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده.
الأب: وسنكتفي الليلة بهذا القدر، ولنا لقاء غدا مع سيرة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
سامي الشرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق